الفصل التاسع والأربعون | كيوبيد ملك الليلة

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

إفصاح: "اللهمَّ أعد علينا هذا العيد باليُمن والبركة، اللهمَّ تقبّل صيامنا وقيامنا".

إفصاح آخر "‏لا تقنط من طيبة الناس كل القنوط ، ولا تعول عليهم كل التعويل ، بل أحسن الظن بالناس كأنهم كلهم خير ، واعتمد على نفسك كأنه لا خير في الناس". عباس محمود العقاد

مساحة لذكر الله

****************************************

الفصل التاسع والاربعون 



ما الذي حدث للتو؟

كنت أسأل نفسي مائة مرةٍ هذا السؤال منذ ذهاب أتريوس، لقد جننت تمامًا! لقد تحولت لأخرى ضربت بكل حساباتها عرض الحائط.

ولكن لنكن عادلين، أتريوس يدفع المرء للحافة بتصرفاته تلك، يريد أن يفعل كل ما يحلو له ويتوقع مني الإيماء والموافقة.

لمَ بحق الله يبعد الجميع بهذه الطريقة؟ أحيانًا يبدو لي أن أتريوس يخاف من نفسه أكثر من خوف الجميع منه.

أنا معجبة برجل، وذلك الرجل يبعد الجميع عنه ولكنه معجب بي... لحظة، هل أتريوس معجب بي حتى؟ أعني… هو لم يقل الأمر صراحةً ولكن حديثه كان واضحًا. لحظة، أنا أيضًا لم أقل الأمر بصراحة، ولكن لقد فعلت ما هو أكثر من فقط اعتراف.

لمَ أملك شعورًا بأني قمت بخلط الكثير من الأشياء التي لم يكن علي فعلها وفعلتها؟

خبئت وجهي بين كفي أشعر بخجلٍ من نفسي، ما الذي فعلته حبًا في الله؟

ولمَ أنا سعيدة؟

لحظة، هل أنا سعيدة؟ أم الأمر أنه أثر الأدرينالين في جسدي؟ يا رجل لم أُوضع في هذا الموقف من قبل، خبرتي في الأمور العاطفية كارثية!

توقفت لثانيةٍ وأبعدت يدي قبل أن أنظر للسماء التي تكاد تغرب شمسها.

ماذا إن عدت للأرض؟ سأعود، صحيح؟

حاولت كتم تلك المشاعر الخانقة التي كادت تنفجر مع انفجار السؤال داخل رأسي، لا أعلم لأيهما شعرت بالضيق أكثر، حقيقة أنني سأترك الجميع خلفي عائدةً من حيث جئت يومًا، أم احتمالية أنني قد لا أعود من حيث جئت تاركةً حياتي وعائلتي القديمة خلفي؟

وكوني لا أملك إجابةً واضحة تركت هذا السؤال للتفكير فيه عندما يحين وقته، لا يجب علي التفكير بنهاية الطريق بينما لا أزال أحاول كسر خطر البداية.

كنت قد نسيت تمامًا وجود كارولوس وآركون حتى اقتربا مني ليبدأ آركون في فرك رأسه بذراعي، وكارولوس وقف بجانبي يحدق بنظرةٍ بدت لوهلة وكأنها نظرات يوجين وقد كان هذا مخيفًا.

"ماذا؟" تبادل كلاهما النظرات للحظةٍ قبل أن ينظرا نحوي من جديد، صحت يائسة: "توقفا عن النظر بهذه الطريقة، أعلم أن ما فعلته للتو... لنقل إنه لا يمت بصلةٍ لجلنار التي تعرفانها، سنترك هذا الأمر بيننا نحن الثلاثة".

أغمضت عيني لثوانٍ أستعيد ما حدث قبل قليل ولم أجد شعور الندم يخالجني في الواقع، عقدت ذراعي ونظرت لآركون وكارولوس قائلة: "لكنه حقير، صحيح؟ أعني أنه نذلٌ بالكامل، يظن أن بإمكانه جعلي أفعل ما يريده، إنه يعبث بأعصابي لدرجةٍ تدفعني في التفكير في كم أريد قتله".

اتسعت عيني والتفت لكارولوس محذرةً عندما شعرت برغبته: "لا، لا تتدخل، لن تقتل أتريوس و... لا، كارولوس! ولا حتى عضة صغيرة، توقف عن تفكيرك العدواني تجاهه، أنت تذكرني بيوجين" ضيقت عيني وأشرت نحوه بإصبعي "اعترف، هو من يملأ رأسك بهذه الأفكار عن أتريوس، صحيح؟".

تظاهر بالبراءة والتفت للناحية الأخرى، كنت أعرف.

"انظر لآركون، إنه لا يهتم حتى، عليك التعلم منه" زمجر متظاهرًا بلا مبالاة وهو بالكاد يمنع نفسه من قتل آركون.

زممت شفتي لثوانٍ ونظرت لكليهما محذرة "لن يعرف يوجين عن أيٍ من هذا حتى أخبره أنا، اتفقنا؟". أصدر كلاهما زمجرةً دليلًا على موافقتها لأمسح على رأسيهما متمتمة: "فتيان مطيعان".

لم يكن نهار هذا اليوم طويلًا، خاصةً أني قضيت معظمه جالسةً على الأرض بجوار البرج الذي نسيت أمره تمامًا أفكر مرارًا وتكرارًا فيما حدث بيننا وأشعر برغبةٍ في دفن نفسي في كل ثانيةٍ تمر.

كنت قد نسيت كل شيءٍ آخر، بما فيه الحفل، حتى غربت الشمس ووصلني صراخ ثونار من خلال اتصالها تخبرني أن أوكتيفيان مستعدٌ لقطع رأسينا إن لم نحضر الحفل في الموعد، كان بإمكاني التملص من هذا الحفل المزعج متظاهرةً بأني ما زلت فاقدةً للوعي، لكن كيف لي هذا وثونار تملك أكبر فمٍ ثرثار في المملكة كلها؟

لم أملك مفرًا آخر، علي النهوض الآن والمرور على مونيكا لأخذ ثوبي الذي أتمنى أن تكون قد انتهت منه، في الواقع أشعر بالمتعة لرؤية وجه جلين بعد آخر مرةٍ رأيته فيها، وهذا يذكرني أن آخر لقاءٍ لنا لم يكن وديًا تمامًا حيث أني لكمته حرفيًا أمام الجميع.

عند التفكير في الأمر، جميعهم يودون لو أن بإمكانهم تعليق رأسي زينةً داخل مكاتبهم، أظن أنه سيكون يومًا شيقًا في النهاية.

تنهدت وأبعدت رأس آركون الذي غط في النوم منذ فترة، ولكنه استيقظ ما أن قمت بتحريكه، هذا الفتى ينام كثيرًا، على عكس كارولوس الذي يتحرك في كل مكانٍ ويطارد أي شيءٍ يتحرك.

كانت وجهتي واضحة، أخذني كارولوس إلى السوق وانتظر هو وآركون في مكانٍ فارغ بعيد عن أعين الآخرين.

كان المكان أقل ازدحامًا عن العادة وأغلب الباعة قد أغلقوا متاجرهم وبدأوا في الخروج بالرغم من أن الليل لم يقترب حتى من منتصفه!

توقفت أمام ورشة الحدادة التي تم إطفاء أنوارها عندما لمحت السيد جولدامون يخرج ويغلق أبواب ورشته عبر لوحٍ إلكتروني متهالك، ونفض يده في محاولةٍ فاشلة للتخلص من بعض غبار الفحم الأسود الذي لوث كفي يده.

ما أن التفت ووقعت عينه علي بدا متفاجئًا لوهلةٍ قبل أن يخرج ضحكةً صغيرة ويربت على رأسي قائلًا: "مر وقت، أليس كذلك؟". ابتسمت وأومأت قبل أن أسأل: "أين يذهب الجميع؟". تابعت حركته بعيني بينما تابع هو ترتيب الكراسي الخشبية بجوار ورشته وإطفاء لوحةٍ بالكاد تعمل كانت تعلن عن نوعٍ جديد من السيوف في الورشة.

"الجميع ذاهبٌ للاحتفال" قال وأخذ أحد البراميل الضخمة الفارغة ووضعها أمامي ليجلس عليها، كان يمكنني حتى وهو جالس ملاحظة الضخامة في حجم جسده، أبدو كطفلةٍ أمامه حتى عند جلوسه.

لاحظت أن ذراعه بالكامل قد تم تضميدها؛ مما دفعني لسؤاله بفضول: "هل أصبت أثناء العمل؟". نظر لذراعه وابتسم بسخرية: "أنا لا أصاب إلا في المعركة، أيتها الشابة. كل رجلٍ عليه الدفاع عن أرضه، لا انتظار الآخرين للدفاع عنها، هل تظنين أنكِ الوحيدة التي بإمكانها المشاركة في الحرب؟".

أشار برأسه نحو الضمادات الظاهرة من خلال ملابسي وآثار الجروح والخدوش على وجهي وأردف: "يبدو أنكِ كنتِ تقاتلين بضراوةٍ أكثر مما كنت أفعل أنا". أو كان يتم ركل مؤخرتي من قبل مريضٍ نفسي يتحكم بالظلال. "الجميع اليوم متحمسٌ حول الحفل؛ لذلك أغلقوا متاجرهم باكرًا واتجهوا إلى أرض العامة جنوب المملكة، هناك حيث براميل الشراب والأنوار والموسيقى وحلقة النار الضخمة، من قد يبقى هنا؟"

تنهدت ولم أستطع المعارضة، ضحك السيد جولدامون قبل أن يربت على كتفي قائلًا: "يبدو أنكِ لستِ من هواة الاحتفال، ها!". نظرت لقدمي وأنا أراجع كل شيءٍ قد يمنعني من الاحتفال، خاصةً في وقت كهذا "الأمر فقط أنني أراه سابقًا لأوانه، لم نكن نشكل تهديدًا على الإريبوس، كنا فئران تجارب لهم، ولكن الآن… لقد أعطيناهم إشارة المقاومة، إنهم يعرفون كل شيءٍ عنا ولكننا لا نعلم حتى أين يقع كوكبهم في هذا الكون، إنهم الظلام، نحن نحارب اللا شيء تقريبًا، إنهم أقوى مما نظن".

تمتمت في النهاية وأسندت ظهري للجدار خلفي. "ربما أنتِ محقة، لكن في رأيي أنهم أيضًا لم يتوقعوا قوتنا الحقيقية وسرعة تحركنا! مما لاحظته: تلك التجهيزات وذلك البرج الضخم لا يشيران لأشخاصٍ كانوا يظنون أننا سنتمكن من إخراجهم من مملكتنا بهذه السرعة، على الأقل لقد تقدمنا خطوة، وبالنسبة لي..."

وضع يده فوق ركبتيه ونهض واقفًا وتابع: "هذا شيءٌ يدعو للاحتفال، ربما حفلنا ليس ضخمًا مثلهم…" أشار برأسه للأعلى قاصدًا القصر الذي يُنار حاليًا بأضواء الاحتفال "لكننا سعداء، متفائلون، وهذا يكفيني. ربما عليكِ تجربة بعض السعادة، أيتها الشابة، ومشاركتنا الاحتفال!".

ليت بإمكاني مشاركتهم، لكن ما تريد فعله وما يجب عليك فعله أمران مختلفان في غالب الوقت. "تعلمين؟ سيكون الجميع سعيدًا بوجودك، فشهرتك هنا تناطح شهرة الفارس الغامض الذي يروض تنين الشفق". رفعت حاجبًا ونظرت نحوه لينظر نحوي ببراءةٍ ويقول: "هل تعرفين من يكون هذا المجهول؟ سيكون رائعًا لو كنتِ تعرفينه بالفعل".

حركت رأسي ضاحكةً وقد أدركت أنه يعلم بالفعل "واندر أخبرتك؟". هز رأسه وسار نحوي ليربت على ظهري "لا أحتاج لشخصٍ ليخبرني أن الشمس أشرقت، أعرف البطل عندما أرى واحدًا، بالرغم من أني لا أعلم عما تتحدثين" تظاهر بالغباء وكلانا يعرف المقصد تمامًا.

تجاوز جسدي وتابع السير وقال بصوتٍ شبه عالٍ: "في حال لم تتمكنِي من المجيء سأخبر الجميع أنكِ تلقين التحية عليهم، عن إذنك، لدي سيدة يجب علي دعوتها لرقصة حلقة النيران".

أحيانًا أتسائل؛ كم من الأشياء التي يعرفها هذا الرجل حقًا؟

تابعت سيري نحو متجر مونيكا ولحسن حظي كانت لا تزال موجودة، فتاتان كانتا تقفان عند المدخل تتبادلان حديثًا عن إعجاب إحداهن بشابٍ ما، وظلت الأخرى تشجعها لتدعوه لرقصة حلقة النيران!

ظهرت مونيكا وفي يدها صندوقان داخلهما على ما أظن أثواب الفتاتين، أخذتا الصناديق ودفعا ثمنها وشكرت كلتاهما مونيكا. "لا تضيعي رقصة حلقة النار على شخصٍ سيكسر قلبكِ لاحقًا، كونا ذكيتين!" صاحت مونيكا لهما ليلوحا لها ويكملا طريقهما.

"جلنار! حمدًا للرب أنكِ جئت، كنتِ قلقةً من اضطراري لإغلاق المتجر قبل مجيئك" اعتذرت لتأخري لتحرك يدها قائلة: "لا بأس، إنه يومٌ مزدحم بالفعل". هرولت للداخل قبل أن تعود بصندوقٍ أزرق اللون عليه اسمي بخطٍ فوضوي "ها هو ذا، لقد كنت مضطرةً لإلغاء الكثير من الطلبات لأتمكن من إنهائه على الوقت، أتمنى أن يعجبكِ".

شكرتها بشدةٍ ودفعت ثمنه وكدت أذهب لتسأل: "ألن تتأكدي منه؟". ابتسمت وحركت رأسي نافية: "لست بحاجةٍ لهذا، أثق بمهارتك، احظي باحتفالٍ سعيد". اتسعت ابتسامتها وصاحت بصوتها العالي المعتاد: "وأنتِ أيضًا!".

عدت إلى حيث تركت كارولوس وآركون وأخذتهما للمنزل ليرتاحا قليلًا، خاصةً وأن آركون كان يقاوم النعاس مجددًا.

ما إن وصلنا حتى ألقى آركون بجسده فوق الأرض وذهب في النوم، وظل كارولوس يتحرك هنا وهناك كعادته.

دلفت للمنزل الذي يبدو فارغًا؛ فالجميع اتجه للحفل عداي تقريبًا، أغلقت الباب بهدوءٍ وجالت عيني على المكان الفارغ وشبه المظلم.

اتجهت نحو السلالم، لغرفتي تحديدًا، لكني تجمدت عندما لاحظت حركةً صغيرة بجوار الغرفة الموجودة بجوار السلم، أملت رأسي في محاولةٍ لرؤية من قد يكون، لكن لم أرَ أحد، ربما فقط ذهني بدأ يهلوس.

التفت لأصعد، لكن هذه المرة الشخص الذي وجدته فجأةً أمامي دفعني للصراخ بفزع، لم أكن الوحيدة التي تصرخ؛ فقد كانت واندر تصرخ أيضًا بما أنها لم ترني وظنت أني دخيل، ويوجين الذي خرج من المطبخ كان يصرخ أيضًا.

 حاولت التقاط أنفاسي وأنا أستند على درابزين السلم بينما بالكاد حافظت واندر على اتزانها، ويوجين... ما زال الأحمق يصرخ!

"لقد كدت أموت بنوبةٍ قلبية، جلنار! ما الذي تفعلينه هنا؟ ظننتكِ ذهبتِ للقصر العظيم بالفعل!" قالت واندر وما زلت تحاول تهدئة نفسها.

"كيف يمكن لشبحٍ أن يصاب بالفزع؟" صرخ يوجين بتذمرٍ وكان السؤال موجهًا لنفسه بشكلٍ صريح، حولت انتباهي منه لواندر التي كانت ترتدي ثوبًا بسيطًا من الشيفون ذا لونٍ ترابي فاتح، وقد انسدل فوق جسدها بنعومة، ذا أكمامٍ واسعة طويلة وحزامٍ من القماش تحت منطقة الصدر.

 كان جميلًا، وللمرة الأولى لم تكن تجمع شعرها القصير للأعلى، بل كان شبه مموجٍ ومنسدل فوق ظهرها.

"تبدين جميلة!" قلت ما تبادر لذهني على الفور لتتسع ابتسامتها وقد ضغطت حمرة الخجل على وجنتيها وقالت على مضض: "لست كذلك، أنا أحاول الانسجام مع أجواء الاحتفال فقط". ابتسمت وعارضتها بقوة: "إلهي، واندر! لستِ كذلك؟ أنا مذهولة، صدقيني؛ تبدين ساحرة، أنتِ ذاهبةٌ للحفل؟".

أومأت بحماس قائلة: "حتى أني تأخرت، لا أريد تفويت رقصة حلقة النيران، سيكون من الجميل مشاهدتها، وأنتِ! لا تتأخرِي، عليكِ الذهاب للقصر الملكي".

كتفت ذراعي وقررت سؤالها عندما تمكن الفضول مني: "أنا أسمع اسم رقصة حلقة النيران طيلة اليوم، ولكنني لا أملك فكرةً عما تتحدثون".

اتسعت عينا واندر وصاحت باستنكارٍ مبالغ فيه: "لا تعلمين ما هي رقصة حلقة النيران؟". عندما أدركت أني لا أمزح وأجهل الأمر وضحت الأمر بحماسٍ شديد:

"عندما يحدث شيءٌ يدعو المملكة للاحتفال تقيم حفلًا كبيرًا جدًا، يشترك فيه الجميع مهما كنت ومن أي طبقة تنتمي، وفي منتصف الليل من تقاليد العامة وسكان الحدود إشعال حلقة نيرانٍ ضخمة، حينها تعزف موسيقى الداليد التي تشتهر بها ليالي الاحتفال، ويحق لكل شابٍ دعوة فتاةٍ واحدة للرقص معه حول حلقة النيران، ولكن إن قام شاب بدعوةٍ فتاة فهذا يعني اعترافًا صريحًا بأنه معجب، أو محب، أي أنه يكن لها مشاعر قوية، ولكنه غير شجاعٍ كفاية للإفصاح عنها، أو هناك ما يمنعه؛ لذلك رقصته تلك تعبر عن اعترافه بمشاعره. أوه، جلنار! جميع الشابات ينتظرن هذه الاحتفالات بفارغ الصبر"

واو! هذا يبدو حقًا شاعريًا، لا بد من أنها ستكون ليلةً لا تنسى لشباب هذه المملكة، ولمحبي النميمة بالطبع.

"لا بد إذًا من شخصٍ سيدعوكِ الليلة، واندر" قلت ممازحة لتدحرج عينها وتقول: "بحقك أنا كبيرة على هذا الآن، لكنني أكون سعيدة جدًا برؤية رقصة الشباب، الأمر مختلف عن أي رقصةٍ أخرى قد ترينها في حياتك، إنها مميزة ومليئة بالطاقة والسعادة".

لوحت بيدها وكأنها تبعد الخيالات الوردية والتفت نحو الباب بعد أن ودعتني قائلة: "علي أن اذهب، وأنتِ عليكِ الإسراع للقصر الملكي، هناك حفل للطبقة المخملية في انتظارك. بالمناسبة؛ تركت لك مفاجأةً صغيرة في الغرفة".

أوه، أجل بالطبع… الطبقة المخملية، يبدو هذا مسليًا أكثر من حفل العامة. يا لتعاستي، أنا أحسد واندر بالفعل.

أي مفاجئةٍ بالمناسبة؟

ما إن خرجت واندر حتى توجه يوجين نحوي وما زال ينظر إلى باب المنزل "إن دعوت كارميل للرقص معي؛ هل ستوافق؟". نظرت نحوه بسخريةٍ قائلة: "حظًا موفقًا، ولكن ربما عليها التمكن من رؤيتك أولًا".

التفت وتركته لأصعد لغرفتي وأغير ملابسي وأتجه للحفل اللعين بسرعةٍ إن أردت تجنب شجارٍ لا داعٍ له مع أوكتيفيان.

أخذت حمامًا سريعًا وفتحت الصندوق أنظر للثوب، التقطته ونظرت له عن كثب، علي الاعتراف، مونيكا حقًا بارعةٌ في هذا، لم أكن أصدق أنها ستنفذه وبهذه الروعة.

متى كانت آخر مرةٍ ارتديت فيها فستانًا للاحتفال؟

أوه، أبدًا!

لم أشارك في أي من احتفالات الثانوية ولا الجامعة، ولم أحضر حتى حفل التخرج، لم يدعُني أحدٌ للذهاب معه ولم أكن أنوي الذهاب منذ البداية.

لطالما تجنبت التجمعات ولم أملك فرصةً واحدة لارتداء فستان لحفل.

ابتسمت ببعض الحماس وحاولت ارتداء الثوب بهدوءٍ حتى لا أقوم بإفساده، تبًا، كنت أحتاج ثونار معي لتساعدني في الدخول في هذا الشيء.

بالتفكير في الأمر، لم أعد نحيفةً كما كنت! أعني… لقد كنت حقًا نحيفةً لدرجةٍ كانت تخيف أمي، ولكن الآن، جسدي أصبح يناسب عمري ويبدو الأمر وكأنني كنت أشترك في نادٍ للتمارين منذ سنوات…

نادي يسمى بأتريوس.

أخذت نفسًا عندما تمكنت من ارتداءه، وقفت أمام المرآة، كان مناسبًا، وأكثر ما يميز الثوب كان لونه الأبيض، الزخارف الذهبية التي أحاطت الأكتاف والرقبة أعطته مظهرًا يشبه الزي الرسمي، الأكتاف كانت طويلةً امتدت الزينة الذهبية لنهايتها، صدر الثوب كانت تزينه سلاسل ذهبية.

والأهم أنه غير مكونٍ من مليون طبقةٍ أثقل من الحديد! كان بسيطًا، ولكن ذا قماشٍ قوي، كما أن مونيكا بالغت قليلًا عندما تركت الجانب الأيمن من الثوب مفتوحًا يظهر قدمي بالكامل.

وفي النهاية كانت هناك عباءة مخملية ذات لونٍ ذهبي تثبت بدبابيس ذات أشكالٍ بسيطة عند الأكتاف وتنسدل على الظهر من الخلف.

ربما علي تجربة ارتداء الفساتين من وقتٍ لآخر.

نظرت لشعري المجموع في ضفائر، لم أعجب به تمامًا؛ لذلك فككت الضفائر بالكامل لينسدل فوق ظهري، أخذت الجزئين على الجانبين وجمعتهما للخلف، وتركت الباقي منسدلًا فوق ظهري.

لمحت صندوقًا بجوار المرآة على الأرضية، التقطته وأخذت الملحوظة الموضوعة فوقه...

 "لن تذهبِي للحفل بحذاءٍ تدمر بسبب التدريب، أعرف ذوقك وأتمنى أن يعجبك، احظي بوقتٍ جيد…

 واندر"

ابتسمت وفتحت الصندوق لتتسع عيني بإعجاب، هذا الحذاء! من أين تحملت واندر تكلفته؟ من الواضح أنه غالي الثمن.

لا يمكنني رفضه، وإلا ستركل واندر مؤخرتي حتمًا.

كما أني أشعر ببعض الحماس لارتدائه في الواقع.

أخذت الحذاء ذا اللون الذهبي الباهت والأسود والمصنوع من الجلد الخالص، لم يكن ذا كعبٍ عالٍ وهذا أراحني كثيرًا، كما أنه يناسب الثوب لحسن الحظ؛ فهو ذو رقبةٍ طويلة وأنا أعنيها، طويلة ليغطي ساقي حتى ركبتاي، فقد كان كفيلًا بتغطية الجزء الذي كان سيظهر بسبب مبالغة مونيكا.

 هذا يناسبني كثيرًا.

نظرت للمرآة للمرة الأخيرة ولم أتمكن من كبت ابتسامتي المتحمسة.

"ما اللعنة؟"

التفت نحو يوجين الذي اقتحم الغرفة، ولكنه توقف يحملق بي ببعض الدهشة التي اعتلت وجهه. "أعلم أنه جيد" قلت ممازحةً ليرفع حاجبًا قائلًا: "جيد! جلنار، إنك تبدين مثالية... أعني أنه ابيض! أتعلمين كم يبدو هذا غايةً في الروعة؟". انحنيت متظاهرةً ببعض الرقي وقلت: "شكرًا، سيدي اللورد، على إطرائك".

انفجر في الضحك وصفق بيده "سيكون اللورد سعيدًا إن قبلتِ الزواج به". دحرجت عيني ليتقدم ويقف بجواري أمام المرآة ويقول: "تخيلي كيف سنبدو إن تمكنت من ارتداء بذلةٍ عسكرية، كنا لنكون ثنائيًا قاتلًا". ضحكت ونظرت لهيئة يوجين وقلت: "يمكنني أن أرى ذلك، لكنني أفضلك بالملابس غير الرسمية".

كدت أخرج من الغرفة للذهاب، ولكنه أوقفني قائلًا: "سيبدو هذا جيدًا معك؛ صدقيني". نظرت لمشبك الشعر الذهبي الذي اتخذ شكل ريشة.

أخذته من يوجين وثبته على جانب شعري "كيف أبدو؟". صفر يوجين وقال: "طلقةٌ قاضية". ضحكت وشعرت حقًا بالامتنان في هذه اللحظة للعلاقة اللطيفة التي أحظى بها مع هذا الشبح .

"هيا، لنذهب"

ارتفع حاجباه وأشار على نفسه قائلًا: "أنا؟ لا، لن أذهب لحفلة الطبقة المخملية، المتعة كلها ستكون مع سكان الحدود". عبست بوجهي وقلت برجاء: "بحقك، يوجين! ستتركني معهم وحدي؟ هيا، لا تكن بغيضًا". رفع كتفه وقال: "أعتذر، سيدتي، لكني لن أخاطر بموتي مللًا".

ابتسمت بخبثٍ وتظاهرت بعدم الاهتمام وأنا أتخطاه قائلة: "لا بأس، كما تريد، لكن لا تشتكي عندما يفوتك عرض التصادم بيني والنبلاء بعد آخر الأحداث".

ابتسمت بخبثٍ عندما لم أسمع رده، وفي خلال ثانيةٍ كان قد مر من خلالي وسبقني نحو الباب قائلًا: "كان الحفل في القصر الملكي، صحيح؟".

أحب كيف أني أعرف نقاط ضعف هذا الأحمق، محب الدراما.

كارولوس كان ينتظرني خارج المنزل وعلى الفور انطلق نحو القصر الملكي مستمتعًا بالتحليق ليلًا. "جلنار! هل سيكون ذلك المتعجرف في الحفل؟" صاح يوجين وقد فهمت فورًا أنه يقصد أتريوس؛ مما جعل قلبي يقفز فجأةً كفتاة أمسكت بها والدتها تكسر بعض القوانين.

"لمَ تسألني؟ ما شأني أنا به؟ لمَ علي أن أعلم أين هو؟" يبدو أني بالغت لأن يوجين نظر نحوي بتعجبٍ وقال: "كنت فقط... أسأل، تعلمين، لأنه يكره هؤلاء الحقيرين".

حتى أنا أكرههم، ولكني مجبرةٌ على الذهاب.

هبط كارولوس أمام بوابة القصر الضخمة مما أفزع الحرس الموجودين هناك.

قفزت من فوقه وربت على رأسه وأنا أنظر للحرس بحذرٍ حتى لا يحدث آخر ما أريد أن يحدث. "يمكنك أن تسبقني للمنزل، كارولوس" زمجر كموافقة ولم يبالِ بأمر الحرس الحذرين، ثم حلق مبتعدًا.

التفت نحو البوابة الضخمة ومشيت بثباتٍ نحو الرجل الضخم الذي يبدو كالمسؤول هنا.

ظننت أني في حاجةٍ لإظهار دعوة أو شيءٍ كهذا، ولكن نظر نحوي لثانية وهرول نحو البوابة ليقوم بفتحها وينحني باحترامٍ حتى أعبر.

"مثيرٌ للإعجاب" تمتم يوجين وهو ينظر لوجه الرجل الجامد عن كثب.

رجلٌ آخر نحيل ويبدو كبيرًا في العمر، لكنه ذو وجهٍ جامد آخر لم ينظر لعيني حتى، بل كانت نظرة موجة للأمام ولم يرمش لثانية. "اتبعيني من فضلك، سيدتي" أعطاني إيماءة احترامٍ صغيرة والتفت كروبوت مبرمجٍ وبدأ يسير باتجاه القصر.

تبعته بصمتٍ ونظرت حولي للمكان الفارغ والمضاء بأنوار سحرية، يبدو أني آخر الواصلين!

سيقوم أوكتيفيان بإشعالي حية.

بدأ صدى صوت حذائي يقرع في أرجاء المكان عندما أصبحنا داخل القصر وأنا أسير فوق رخامٍ من أجود الأنواع.

لم أكن أرى أي مصابيح، وعلى الرغم من أن هذا قد كان القصر بالكامل مضاءً بشكلٍ مثير للدهشة.

أصوات قرع حذائي كانت تصدح بوتيرةٍ بطيئة مقارنةً بنبضاتي، وفجأة بدا الأمر وكأن جميع الشخصيات داخل اللوحات الفنية ذات الجودة العالية تنظر نحوي بترقب.

وكل تمثالٍ غريب الشكل يحدق نحوي بأعين ضيقة، وكأن تلك الصور والتماثيل الصامتة تبتسم بشيطانية، تراقب حالي بينما أسير بقدمي نحو قاعدة عدوي.

أخذت نفسًا وأخرجته بهدوءٍ وحاولت طرد التوتر بالكامل من داخلي والدخول في حالةٍ من البرود، ولم أكن في حاجةٍ للكثير من الوقت لأستجمع نفسي.

مجرد التفكير في كل جرائم الحقراء الموجودين هنا كان كافيًا لدفع تعبيرٍ لا مبالٍ على وجهي ورفع رأسي بثقة، لن أسمح لهم برؤيتي مدمرةً بعد المعركة. كل خدشٍ، كل علامةٍ على وجهي وجسدي هي رسالةُ لهم، لا شيء سيوقفني الآن، لم تعد الضربات والسيوف تخيفني.

توقف الرجل عندما وصلنا لبوابةٍ ضخمة ذهبية ومزخرفة وبدت الغرفة عازلةً للصوت لأنني لم أسمع صوت شيءٍ من داخل، ولكن ما أن فُتحت البوابة وحدها حتى اندفعت أصوات الأحاديث الجانبية الممتزجة بالموسيقى الهادئة وشبه الكلاسيكية هنا.

صاحب البوابة التي فتحت على مصرعيها دون أن يلمسها أحدهم صوت قرعٍ فوق الأرضية دفع الجميع للصمت والنظر نحو البوابة.

رجل ببذلةٍ سوداء رسمية وموحدةٍ بين جميع الخدم أعلن وصول آخر ضيوف الأميرة بصوتٍ قوي: "الآنسة جلنار روسيل تكرمت بالحضور وتلبية دعوة جلالة الأميرة".

تنفست براحة، فقدت تخيلت للحظةٍ أنه سيصرخ بابنة التوبازيوس أو الفارسة، كان ذلك ليقتلني.

تقدمت للداخل بخطى ثابتةٍ ولم أحاول النظر حول المكان؛ فكانت عيني متعلقةً بالأميرة التي بدت مذهلةً بثوبها الأبيض الضخم وشعرها المرفوع للأعلى، بدت بالفعل كالشخص الأبرز في هذه القاعة المليئة بالحضور.

"إلهي! تلك المرأة تزداد جمالًا مع الوقت، هل يمكنني لمسها لمرة؟" أردت حقًا كسر عنق يوجين في هذه اللحظة، هذا حقًا مريب، يبدو كمهووس. "ماذا؟ انظري! إنها تبدو كدميةٍ تم تصميمها في مختبرٍ حسب المعايير القياسية" بالرغم من كون هذا غريب فإنني أرى وجهة نظره بوضوحٍ صحيحة.

كانت تبتسم نحوي ابتسامةً صغيرة، وكنت أعلم أن علي التوجه نحوها أولًا كمضيفةٍ للحفل.

توقفت أمامها وأومأت بخفة، لتومئ في المقابل.

"يسعدني حقًا قبولكِ الدعوة، جلنار. سمعت بما حدث لكِ في اليومين الماضيين، حمدًا لله على سلامتك" قالت بصوتٍ مسموع لأشكرها.

"أنا أيضًا بخير، شكرا لك" قال يوجين بكل لباقةٍ متجاهلًا طلب أن يكون عاقلًا، الأصوات كانت قد تحولت لشبه همس والجميع ينظر نحونا، ولكن شيئًا فشيئًا بدأت الأمور تعود لطبيعتها على الرغم من أني ما زلت أشعر بأن الجميع يرمقني وفي ثانيةٍ سيتم الهجوم علي من قبلهم.

"أنا على ما يرام، شكرًا لاهتمام جلالتك، لقد تشرفت بدعوتك لي" أعني أني في العادة عشوائية جدًا، لكن علي منحها احترامها الكافي أمام رعيتها.

"لقد نجحتِ في لفت الأنظار الليلة، حقًا أنا معجبة بثوبك، لو أتمكن من ارتداء شيءٍ بهذه الجرأة ليوم واحد…" همست مقتربةً مني بينما تشيرة للتصميم الغريب نوعًا ما لبقية التصاميم المبهرجة في المكان. "شكرًا لك، لكن لا يحق لي التحدث عن لفت الأنظار بينما أنتِ تأخذين دور سيدة الحفل بامتياز" دحرجت عينها وتنهدت وهي تنظر لثوبها الضخم.

"لست سعيدةُ بهذا كثيرًا، أتعرفين كم ثقل هذا الشيء؟ أنا أحارب هنا لأبدو طبيعيةُ به" اقتربت مني وهمست مجددًا حتى لا يسمعها أحدهم مما دفعني لمحاولة كتم ضحكي: "عليكِ إخباري أي خياطٍ ملكي قام بخياطة ثوبكِ، يبدو مريحًا حقًا".

إنه يثير الحكة بعض الشيء ولكنه أفضل من مائة كيلوجرام من القماش. أوه، عزيزتي مونكيا، أظن أنني سأجلب لكِ الزبون الأكثر أهمية في المملكة كاملة.

"إنها ليست ملكية، من صنعت هذا الثوب من سكان الحدود" أخذ الأمر من الأميرة ثوانٍ حتى تدرك ما قلت قبل أم ترتسم الدهشة على وجهها لتهتف بحماسة: "ستخبريني من تكون قريبًا وإلا سأعيش حياتي في هذا السجن الأبدي" أشارت للفستان وقد جذبت بعض الأنظار مما دفع مساعدها النحيف -والذي يبدو مرتعبًا دائمًا- للهلع والاقتراب منها ليهمس لها أن تنتبه لما تقول.

نظرت نحوه بطرف عينها ببرودٍ ليبتلع ويبتعد ببطء متمتمًا: "بالطبع، جلالتها يمكن لها أن تفعل ما تريد". تنهدت الأميرة بتعبٍ وتمتمت: "هذه المملكة ستقتلني يومًا ما". ضحك يوجين وكأن الحديث موجهٌ نحوه "جمالك سيقتلني يومًا ما". مبتذل جدًا.

عيني التقت فجأةً بعين سيد عائلة ألفن الذي كان يترأس مجموعة وينصت لحديثهم دون أن يحاول المشاركة وكأنه يترفع عن ذلك، ولكنه نظر نحوي في اللحظة ذاتها وكان بإمكاني رؤية أنه ينوي على الكثير، لقد كان يتوعد بإنهائي وهذا واضحٌ في نظراته وحدها.

"إنه ينظر لك كزوجةٍ تواجه زوجها الخائن، وكأنه فقط يريد اقتلاع عينيك وتعليقهما حول عنقك" هل قلت من قبل إن يوجين أكثر شخص يمكنه أن يقلل من توترك؟ لأنه ليس كذلك!

"أعلم ما تشعرين به، جلنار، ولكن لا تعطيهم ما يريدون" التفت للأميرة التي اقتربت مني وهمست بجوار أذني دون أن تنظر لقادة النبلاء. "إنهم يعلمون بالفعل أنك خلف جميع الأحداث الأخيرة، وسيحاولون الضغط على الفرسان اليوم وعليكِ خاصة، لا تعطيهم الفضيحة التي يريدون"

"تجنب فضيحة هو أمرٌ أعدك به، ولكن عدم إشعال الغرفة بينما هم داخلها شيءٌ من الصعب وعدك به" قلت مثيرةً ابتسامتها. "هل ستشعلين المكان حقًا؟" صاح يوجين في حماس وكدت أصفع رأسي لشدة غبائه. "حقًا سيكون من الجميل إمضاء الوقت معك، ولكن..." جذبت الاميرة انتباهي عندما قالت ملاطفة، ثم نظرت حولها وأردفت: "لدينا الكثير من العمل".

نظرت نحوي مجددًا في شيءٍ من الجدية "أعلم أن من المفترض لهذا أن يكون احتفالًا، وأنتِ تعافيتِ للتو، ولكن هناك أشياء لا يمكن تأجيلها. أريد منكِ أن تجدي وقتًا للحديث قريبًا جدًا، جلنار، هناك الكثير للحديث عنه".

أومأت متفقة معها "لا تقلقِي، لقد أعطيتكِ وعدًا بالاعتناء بكل شيء، ولا أنوي وضعك خارج الصورة، أيتها الأميرة".

بالرغم من ابتسامتها الثابتة ونظرتها الواثقة فكل شيءٍ يدور حولها يخبرك أن هذه الفتاة لا يمكن كسرها، إلا أن هناك شيء من الإحباط في نبرتها، لم أستطع تفسير الأمر جيدًا، ولكني على يقين أنها ليست بخيرٍ كما تبدو!

"عن إذنك إذًا، هناك الكثير من الضيوف المزعجين الذين علي الاهتمام بهم" أومأت وأفسحت لها الطريق لتتجه نحو مجموعةٍ من العجائز.

"كنت على شفير الخروج من هنا وإخراجك من مخبئك إن اضطررت لذلك" التفت لأوكتيفيان الذي أمسك بكأسٍ من المشروب وفي يده آخر ناوله لي. "لقد كنت أخطط للاختباء بالفعل، لولا أن هناك فم ثرثار لم يتوقف عن إخبار الجميع أني استيقظت" قلت قاصدةً ثونار ورفضت كأس المشروب الذي في يده.

"شخصٌ ما يتحدث عني هنا" ألقت ثونار بثقلها علي وهي تحيط كتفي وتأخذ الكأس الذي رفضته من يد أوكتيفيان وتأخذ كأس أوكتيفيان بذاته وتشرب الاثنين.

ثوبها كان بدرجةٍ غامقة من اللون الأخضر، أبرز لون شعرها الأصهب بقوة، منطقة الصدر كانت مكشوفةً وكان ضيقًا من الأعلى وضخمًا من الأسفل كما أنها نجحت في جمع شعرها للأعلى بالرغم من تساقط بعض الخصلات المجعدة.

حاولت ركل يد يوجين التي تعبث بذيل فستان ثونار، ولكنه سحب يده في الثانية الأخيرة واتجه نحو رجل عجوزٍ وحاول نكز... نكز مؤخرته، تبًا!

"تبدين مذهلة!" صاحت ثونار وهي تقوم بدفعي للدوران قبل أن تضع رأسها فوق كتفي وتقول: "لو كنتِ رجلًا لكنا ثنائيًا مثالي". رفعت حاجبي نحوها قائلة: "لمَ لا تكوني أنتِ الرجل؟". أوكتيفيان بدل نظرة بيننا بتعبيرٍ مستنكر وتمتم: "هذا الحوار مقزز".

بدأ الاثنان في جدال حول الرجل الأحمق والمرأة المتحيزة ولم أكلف نفسي بالإنصات لهما؛ فقد كنت أبحث بعيني عن رجلٍ أحمق يحمل فأسين أينما ذهب، ولكني لم أنجح في إيجاده.

"هل يمكنكِ التوقف عن سحب كل كأس مشروبٍ آخذه؟" تذمر أوكتيفيان لتتجاهله ثونار وتشرب الكأس الذي أجهل عدده. "هناك شخصٌ يبحث عنك" أشارت بعينها نحو السيد ألفن الذي أشار لأحد الخدم نحو أوكتيفيان ليناديه.

تنهد أوكتيفيان وتمتم: "لن يترك ظلي هذا العجوز". قبل أن يتجاوزني أمسكت مرفقه بخفةٍ وهمست حتى لا يلاحظنا أحد "تماشى معه حتى النهاية، نحن من لن نترك ظل هذا العجوز".

سار بثقةٍ نحو ألفن ولم يبدِ أي رد فعل قد يجعل ألفن يشك بكلينا.

"أحتاج برميلًا من المشروبات حتى أتحمل هذه الحفلة المملة" تذمرت ثونار قبل أن تتثاءب. "أتعلمين ما يجعلني أتحمل هذا الغباء؟ هو وجود هذا الوسيم هناك" قالت بينما تنظر لرجلٍ يبدو في الثلاثينات من العمر والذي كان وسيمًا بالفعل، وذا ابتسامةٍ جذابة وعينين ناعستين.

امرأةٌ اتجهت نحوه وهمست في أذنه ليضحك الاثنان بينما تشبثت بذراعه، ابتسمت بشفقةٍ وربت على رأس ثونار قائلة: "للأسف أحدهم سبقك". ابتسامة جانبية ارتسمت على ثغرها وقالت بلا مبالاة: "إنها زوجته". ارتفع حاجبي بدهشة ونظرت نحوها لتقول: "ماذا؟ الأزواج ليسوا استثناءً من قائمة المغازلة".

"هل هي حقًا تتغزل برجلٍ متزوج؟" يوجين الذي قرر الانضمام لي مجددًا قال بصدمةٍ مماثلة لاستنكاري.

أحيانًا يصبح منطق ثونار غير منطقي إطلاقًا!

"بالحديث عن الرجال، أحدهم لم يبعد عينه عنك منذ دخولك، يبدو أن طلتك ساحرةٌ بالفعل" همست بجوار أذني وأشارت بعينها نحو... أوه، يا إلهي! لقد نسيت تمامًا أنه سيكون من الحاضرين.

كانت محقة! بنجامين كان يقف بين مجموعةٍ تثرثر بلا انقطاع، ممسكًا بكأسٍ من النبيذ الأحمر، ويبدو عليه الملل على عكس خطيبته فيوليت التي كانت تتحدث بحماسٍ مع امرأة أخرى.

عندما أدرك أنني أنظر إليه رسم ابتسامة صغيرة وأومأ برأسه، تلك النظرة لا تعجبني. "هذا الفتى أكثر ذكاءً من أن يفتن بامرأةٍ لأنها تبدو جميلة، تعاملي معه بحذرٍ، ثونار" تلمست ثونار الجدية في حديثي؛ لذلك لم تشعر أن الموضوع محور مزاح، فأومأت دون تعقيب.

"لا أحب هذا الفتى على الإطلاق، يشعرني بعدم الارتياحٍ بينما أنا شبح! أيمكنكِ تخيل هذا؟ أنا من أُشعر الأشخاص بعدم الارتياح، ولكن هذا الفتى بدل الأمر تمامًا"

أومأت متفقةً وتمتمت: "أنت محق".

أكثر الأشخاص الذين يثيرون قلقي هم أمثال بنجامين، يبدو كالابن المدلل، والكسول الذي يفتن جميع النساء، ولكنه يستعمل الأمر كغطاءٍ ليس إلا، هذا الفتى أكثر خطورةً من بعض قادة النبلاء.

حاولت عدم الالتفات له كثيرًا أو الاصطدام به في الوقت الحالي، التفت لثونار، لكنها كانت تنظر نحوي بتعبير أبله وعينها تتبدل بيني والمكان الفارغ بجواري! "هل أنتِ بخير؟" سألت في محاولةٍ لإخراجها من حالة الذهول.

تحولت فجأةً لمراهقة متحمسة وضغطت على كتفي بقوة وهي تقول: "إنه هنا! الشبح خاصتك هنا أيضًا!". صاح يوجين بحماسٍ متجاوبًا بحمق: "أنا هنا بالضبط!". نكزتها بقوةٍ وقلت من بين أسناني: "اخفضي صوتك". تحركت بحماسٍ وحاولت تمالك نفسها بينما تهمس: "الأمر محمسٌ جدًا، أشبه بالسحر ولكنه ليس سحرًا، تعلمين؟ عليكِ توطيد العلاقة بيننا". أوه، لا، أنا لن أفعل.

"أحب هذه الفتاة" علق يوجين مما دفعني لإسكاتهما.

يوجين وثونار معًا؟ هذا مزيجٌ علي منع حدوثه.

لم نكن مضطرين لإكمال هذا الحديث لأن لافيان ظهر فجأة مربتًا على ظهري "سعيدٌ بوجودك بيننا مجددًا، على الأقل لن أحتمل هراء القادة هذا وحدي".

"هل يتم الضغط عليك أيضًا؟"

أومأ متظاهرًا بالموت "أنا فارس متحكمي الأدوات، ولكني لست المتحدث الرسمي عنهم" ضحكت وأنا أربت على كتفه كمواساة. "على عكس ألم الرأس الذي حصلت عليه شخصٌ آخر حصل على أغلب الانتباه"

التفت حيث ينظر لشخصٍ التف حوله الكثير، غالبيتهم من الفتيات فـ... لحظة "أهذا أغدراسيل؟".

"اللعين، كنت أعلم أنه وسيم، لكنه يبدو جذابًا في الزي الرسمي" قالت ثونار وهي تحدق به، كان يحاول مجاراة الجميع حوله، ولكنه يبدو متورطًا بعض الشيء.

انتبه لنظراتنا نحوه ليلوح وقد رسم ابتسامة سريعة قبل أن تسحب إحداهن كتفه لتجذب انتباهه. "بعد التفكير، أسوأ حظًا منا جميعًا" ضحكت لجملة لافيان الأخيرة، أشعر بالشفقة لحال أغدراسيل.

"لا أفهم ما المميز فيه!" انضم لنا جوزفين وهو يكتف ذراعيه ويتفحص أغدراسيل بحاجب مرفوع، كان يوجين يقف بجوار جوزفين مكتفًا ذراعيه وأومأ قائلًا: "أنت محق! لا شيء مميز فيه، إنه عادي".

"أتمزح؟ أترى الطريقة التي شمر بها ساعديه؟ أو حتى سمرة بشرته؟ أوه، نسيت، كيف لمدللٍ مثلك أن يعرف جاذبية الشاب الكادح؟" ثونار وجدت طريقة مناسبة لإغاظة جوزفين واستغلتها مباشرة.

"كل شخصٍ يمكنه تشمير ساعديه! حتى جدتي يمكنها أن تفعل، لا توجد أي جاذبية في هذا، كما… ماذا تقصدين بمدلل؟" تبادلت أنا ولافيان نظراتٍ سريعة عندما احتد النقاش بينهما. "لنهرب" قلنا في الوقت ذاته قبل أن ننسحب بعيدًا عنهما.

"سيقومان بإثارة فضيحة" تمتم لافيان قبل أن نتبادل النظرات وأقول: "سيكون هذا ممتعًا" قال الجملة ذاتها معي مما أثار ضحك كلانا. "نتفق كثيرًا هذه الفترة" قلت ممازحةً فأومأ متفقًا.

الشعور بأن شخصًا ما يراقبك لم يفارقني حتى هذه اللحظة، ولم أكن في حاجة للبحث؛ فأغلب الأعين هنا تراقبني بحذر، أغلب الموجودين كانوا في حفل جلين الأخير حيث قررت اقتحام المكان.

والآن أنا في الحفل الملكي، ولا أحد يعلم من أكون ولأي عائلةٍ أنتمي، وبالحديث عن جلين، وجدت نفسي التفت بحثًا عنه ولم يكن من المفاجئ رؤيته بجوار ألفن وصاميومين وثلاثتهم يتبادلون حديثًا باردًا.

لاحظ جلين نظرتي له مما دفعني لرسم ابتسامةٍ ودودة كاذبة، كان من الجلي أني أسخر منه، فأنا من كان له الكلمة الأقوى في آخر لقاء.

ولكن نظرته الواثقة المصاحبة لابتسامته الواسعة وهو يرفع كأسه نحوي كتحيةٍ سريعة لم تشعرني بالاطمئنان أبدًا.

"أظن أن أحدنا يحتاج مساعدة" أجفلت بخفةٍ لصوت تينر جام بجواري، وكوني لم أنتبه له منذ البداية دفعني للاعتذار على مضض. "لا عليك، ولكنك تبدين مسلوبة الذهن" تنهدت وملت نحوه دون النظر نحو أي شخصٍ معين. "تعلم شعور أن الجميع على وشك الانقضاض عليك؟"

حاول رسم ابتسامة مواسية وضغط على كتفي لإظهار دعمه وقال: "أعلم، أن الأمر صعب، ولكن يمكنك النجاة، أنا أثق بك". ترددت للحظةٍ ولكني أخبرته: "هناك شيءٌ سيء سيحدث، صدقني؛ لن تمر هذه الأيام على خير".

"أنتِ تبالغين في القلق" قال في محاولة لتقليل من قلقي. "لا، إنها محقة، هناك شيءٌ سيء يخطط له أولئك الحمقى، لقد ضربتهم في مقتلٍ عندما انتقل الجميع لأراضيهم وقد اعتادوا أن لهم الكلمة العليا، ولكنكِ لم تكسري كلمتهم فقط، لقد حطمتِ كبريائهم، واستخدمتِ قواتهم وجنودهم، لن أتفاجأ إن كانوا قد سمموا أحد مأكولاتك بالفعل"

عيني اتجهت نحو أرتيانو الممسك بكأسٍ من الشراب والمتكئ على أحد المقاعد. "ذكرني مجددًا، هل مسموحٌ لمن هم في عمرك بالشرب؟" ابتسمت بسخريةٍ ليرفع حاجبًا نحوي ببرود: "بالطبع، يجب أن يُسمح لمن في عمري باحتساء الكحول حتى أتحمل التعامل يوميًا مع الحمقى أمثالك".

أصدر يوجين صفيرًا وتمتم: "هذا قوي". نظرت نحوه بطرف عيني وتجاهلت الجولة التي خسرت فيها بكل وضوح، لكني لم أستطع تركه بهذا الفوز؛ لذا انهيت الأمر قائلة: "لن أجادل طفلًا".

رفع كتفه في حركةٍ سريعة وقال: "هذا سيكون سهلًا؛ فلا أحد يتناقش مع ذاته، إلا إن كنتِ مصابة بنوعٍ من أنواع العته العقلي".

هل سيكون لا أخلاقي إن قمت بصفعه فقط مرةً واحدة؟

"أظن أنه يحتاج بعض المساعدة" تمتم تينر جام بينما ينظر نحو طاولةٍ مليئة بأصناف من الحلوى الشهية، ولكن شخصٌ ما كان فوق الطاولة يحاول تذوق جميع الأصناف، كان هارليك سعيدًا جدًا بمملكة الحلوى التي وجد نفسه بينها، بينما كان رومياس يعتذر من الأشخاص الذين ينظرون نحوه ويحاول سحب هارليك.

ضحكت لمنظرهما واتجهت نحو الطاولة ممسكةً بقميص هارليك من الخلف لأرفعه بعيدًا عن الطاولة وأضعه فوق الأرضية.

نظر نحوي بغضبٍ، ولكن تلك النظرة تلاشت ما أن أدرك أنني من قمت بسحبه، ألقى بجسده نحوي محتضنًا جسدي أو ما استطاع أن يصل له بطوله وصاح بسعادة:

"لقد استفقتِ؟ لقد أخبرتنا ثونار بهذا ولكن لم أصدق، إلهي! تبدين جميلة جدًا، لقد كان الجميع يعمل بجد حقًا، فستانك رائع جدًا بالمناسبة. أتعلمين أن السيد أتريوس والسيد أغدراسيل يعملان معًا؟ بالحديث عن السيد أتريوس؛ السيد أوكتيفيان غاضبٌ منه لأنه تجاهل دعوة الأميرة، إلهي، أنا سعيد لأنكِ بخير! أتعلمين؟ لقد ساعدت لافيان! وكنا نطمئن على جميع المصابين، الجميع كان سعيدًا بوجودنا، أتعلمين؟ قد كانوا..."

لم يستطع إكمال حديثه لأنني أمسكت بمنديلٍ من فوق المائدة ومسحت فمه الملطخ بالكريمة والسكر. "أنت الآن في حفلٍ ملكي، هارليك، عليك التصرف بلباقة" قلت ليعبس لثانية؛ مما دفعني للهمس: "أو فقط تصرف بلباقةٍ أمام أوكتيفيان، ثم افعل ما تريد". ضحك وحاول أن يغطي فمه عندما مر أوكتيفيان من خلفنا.

"سعيد بعودتكِ، جلنار" نظرت لرومياس الذي ابتسم بصدقٍ وقد بدا لطيفًا جدًا في ثيابه الرسمية والتي كان يحاول ألا يفسدها في كل حركة، وخصلاته كانت مرفوعةً بالكامل للخلف مما أبرز لون عينه الزرقاء.

"تبدو حقًا… وسيمًا، رومياس" مدحت مظهره ليحمر خجلًا ويحاول الهرب بعينه بعيدًا، ثم قال في تلعثم "شكـ… ـرًا، تبـ... أعنى… أنتِ أيضًا... جميلة". إلهي، أحب هذا الفتى كثيرًا.

"الصغيرة تشعر بالخجل" تنهدت لصوت يوجين الساخر من خلفي، على الأقل إنه يستمتع بوقته وهذا جيد.

"كم هذا جميل! يبدو أنكم تستمعون كثيرًا هنا بينما بنو جنسك يخونون عهد التوبازيوس منضمين لجيش الظلام"

كلانا التفت للصوت الجديد بيننا، وكدت لوهلة أمسك برقبته السمينة وأكسرها، ولكني تمالكت نفسي.

كان حديث سيد عائلة دول موجهًا إلى رومياس بشكلٍ خاص. كان حوله مجموعة من الحمقى، ثلاث نساءٍ يبدون حوله لأجل ما يملك من سلطة، ورجلين بدا كلٌ منهما أحمق وكلاهما تقريبًا من عائلة دول.

"وها هو البرميل المتكلم يدخل في الصورة!" صاح يوجين بصوت معلقٍ قبل أن ينظر نحوي ويترجى: "أيمكنني سحب سرواله من الخلف؟ أرجوكِ". حركت رأسي بـلا بينما أنظر نحوه بحدةٍ ليتنهد بملل.

"أنـ… أ… لـ…" تلعثم رومياس وأخذ خطوةً صغيرة للخلف كوسيلةٍ للدفاع عن نفسه، وهذا ما دفع دول ليأخذ دور الطرف المسيطر هنا ويضحك بشكلٍ ساذج قائلًا: "أنت ماذا؟ ألست فارس المستذئبين؟ كيف لنا أن نثق بك بينما أمثالك يحاربون ضدنا، هل يحاول المستذئبون أن يظهروا كأقوياء فيلتجئون لهذه الألعاب الرخيصة؟".

كان صوته العالي وسيلةً لجذب الأشخاص الموجودين في محيطنا، وبدا وكأنهم كانوا في انتظار هذا الفتيل لتوجيه الاتهامات لأحدٍ ما.

"نحن لا نلجأ لخدعٍ رخيصة" كان صوت رومياس بالكاد مسموعًا، ولأنني أقف بجواره تمكنت من سماعه. "هل أنت خجلٌ من أفعال بني جنسك؟" قال ضاحكًا ليضحك من حوله معه.

"كيف تجرؤ عـ..." صاح هارليك، ولكني أمسكت بكتفه ليصمت، نظر نحوي بترجي واعترض قائلًا: "ولكن..". حركت رأسي بلا ونظرت نحوهم مجددًا بينما تركيزهم منصبٌ على كيفية إسقاط أحد الفرسان.

"عدلت عن رأيي، لن أسحب سرواله، سأقحم حذاء هذه المرأة القبيحة داخل فمه" يوجين قال ببعض الغيظ مشيرًا لأحد النساء بجواره.

"لمَ لا تعطينا جوابًا صريحًا يا هذا؟ ألست المسؤول عن قومك؟ هل أنت متواطئٌ أيضًا مع جنود الظلام؟" أحدهم قال بنوعٍ من الجدية وبدا كشخصية عسكرية.

رومياس جمع قبضته وعينه لا تواجههم، وفي ثانيةٍ نظر نحوي، لكني كتفت ذراعي وظللت صامتةً كما أنا.

لم يكن التجمع ملحوظًا جدًا، ولكنه لم يكن صغيرًا، وإن استمر على هذا المنوال ربما سيتحول لفضيحةٍ في المكان.

"سمعت أنك أوميغا! ألست الأضعف في مجموعتك؟ هل تعلمت حتى كيف تقاتل لتصبح مفيدًا في هذه الحرب؟"

دول تقدم نحوه وأردف: "المستذئبون، لطالما كانوا مجرد حيواناتٍ تتصرف تبعًا لغرائزها، لقد كان جنودي في ساحة المعركة ورأوا حقيقتكم المقززة، مخلوقاتٌ بشعة".

اشتد ضغط رومياس على أسنانه بينما همس بـ: "توقف" لكن لم يكن همسه مسموعًا؛ لأن دول أكمل مستعرضًا نفسه: "هل حقًا تحاول القتال لأجلنا؟ تبدو لي خائنًا، جميعكم، أيها المستذئبين تلعبون لعبةً قذرة علينا وجميعكم تحاربون في صف الظلام، أكون الإلترانيوس الأقوى بين الممالك غير مرضٍ لكم؟".

أقترب أكثر منه قائلًا في خبث: "ربما اللونا خاصتك علمتك كيف تكون خائنًا ذا وجهـ..." ابتسمت عندما اختنق دول بكلماته في الثانية التي رفع فيها رومياس عينه لينظر نحوه دون تردد.

كانت تكشيرته تثير الفزع، أعترف بهذا!

رومياس كان يحاول التحكم بنفسه لأن الشرار الخاص به بدأ يلتف حول قبضته، ولكنه حاول إخفائها، لم يكن في حاجةٍ للحديث بصوت عالٍ فنبرته كانت مرعبةً وقد أخذ خطوةً نحو دول ينظر لعينه بجرأة ويقول بينما يكشر عن أنيابه:

"إياك أن تتجرأ على الحديث عن اللونا"

ارتبك دول وبدا مترددًا بشأن إن كان عليه الرد، ولكن رومياس الذي أخذ خطوةً أخرى نحوه دفع دول للعودة للخلف. "إياك والحديث عن المستذئبين مجددًا"

حاول دول التماسك والحفاظ على صورته أمام الجميع ليصطنع ضحكة قائلًا: "وماذا ستـ...".

المسكين لم يكمل لأن زمجرة رومياس التي جذبت أنظار الغالبية هذه المرة أجفلت جسده بقوةٍ وظهر الرعب على وجهه عندما اسود وجه رومياس وقال من بين أسنانه: "إياك والحديث عني بتلك الطريقة مجددًا". اقترب منه بينما سادت بين الجميع أجواء من التوتر الحقيقي…

كان سببه هالة رومياس القوية، تلك كانت هالة دراكوس أيضًا الذي كان يزمجر داخل رأس رومياس بوضع مخالبه داخل قلب الرجل. "ابتعد من هنا قبل أن تجد رأسك يتدحرج بعيدًا عن جسدك" ذلك كان صوت دراكوس دون شك.

الفزع ظهر ليس فقط على وجه دول، بل حتى على رفاقه. "هذا تهديدٌ صريح، أيها الفارس! من الحكيم أن تنتبه لفمـ..." الرجل الذي يبدو عسكريًا ابتلع ما كان سيقوله عندما تحولت عين رومياس الغاضبة نحوه.

عندما بدأ الأمر يجذب الانتباه تحركت نحو رومياس ووضعت يدي فوق كتفه هامسةً بجوار أذنه: "اهدأ قليلًا".

بدا دول وكأنه يحاول استعادة ما سقط من كرامته ليوجه حديثه نحوي في تهكم: "عليكِ التحكم في تصرفات فرسانك جيدًا...". رفعت حاجبي نحوه وابتسمت بهدوءٍ موجهةً حديثي نحو الرجل العسكري بينهم: "من المؤكد أنك كنت تقاتل في المعركة" رفع رأسه بفخرٍ وأومأ. "إذًا لا بد من أنك سمعت بذئبٍ ضخم أبيض اللون لم يترك جثةً سليمة على أرض المعركة"

اتسعت عينا الرجل ونظر لرومياس الذي هدأ، ولكنه كان مشغولًا نوعًا ما في محاولة تهدئة دراكوس الذي لا يعجبه الأمر، فإراقة الدماء كانت الحل الذي يراه مناسبًا.

"إذًا من الحكمة أن تتوقف عن استفزاز رومياس…" اختفت ابتسامتي وأردفت: "ومن الحكمة ألا تتهم مملكةً كاملة بالتآمر والخيانة، إلا أن كنت قدارًا على تحمل مسؤولية كلماتك" الجملة الأخيرة كانت باردةً وخرجت بشبه أمرٍ لا طلب مما أثار استياءهم.

اقتربت من دول وقلت بينما أضغط على كل حرفٍ وأنا أحدق بعينه: "نحن لا نتصف بالرقي الذي تتظاهرون به؛ لذلك راقب نفسك جيدًا، وراقب فمك عندما تتحدث مع أحد الفرسان، لن أمنعه المرة القادمة! وحينها كل ما ستراه دماؤك تلوث المكان، قبل أن ترتطم رأسك بالأرضية الباردة".

كان دول أكثرهم جبنًا وهذا واضح من أول لقاءٍ معه؛ لذلك لم يجد أي حرجٍ في أخذ خطواتٍ للخلف قبل أن يعتذر من المجموعة على مضض وينسحب بعيدًا بينما يلتقط كأسًا من الماء ويشربه في ثانية.

عيني التقت بالرجل ذي البذلة العسكرية وقلت بحدة: "هذا الفتى دافع عن مملكتكم واستعاد أراضيها، وأنت تتهمه بالخيانة! لكنت شعرت بالخجل من نفسي إن فعلت أنا ما فعلت".

بدا كشخصٍ تلقى صفعة، ولكن لم أكن لأطيل هذا الحديث، خاصةً أن أوكتيفيان قد اتجه نحونا عندما لاحظ أن شيئًا سيئًا قد يحدث.

"ماذا يحدث؟" سأل بصوتٍ شبه مسموع لابتسم بشكلٍ طبيعي وأقول: "لقد كنا نحظى بحوار شيق، ليس إلا". رفع حاجبًا ونظر للبقية حولنا وكاد يسأل، لكنهم تفرقوا على الفور دون كلمةٍ واحدة مما أثار ريبة أوكتيفيان

"أنتم ستسببون المتاعب عاجلًا أم آجلًا"

ملت نحوه هامسة: "رومياس قد يبدو فتى هادئ، ولا يسعى خلف المشاكل، لكن ذئبه همجي ويملك كبرياءً قوي، حاول كبح هؤلاء الحمقى قبل أن يتسببوا في قتل أنفسهم". نظر نحو دول الذي حاول تجفيف عرقه بمنديلٍ من حرير ولم يتجرأ على النظر نحونا.

"أعتذر، لقد كان خطئي" التفتنا نحو رومياس الذي عاد لطبيعته، سبقني في الحديث هارليك الذي صاح بحماس: "أتمازحني؟ لقد لقنته درسًا، لقد كان يرتجف من الخوف! ذلك الأحمق عديم النفع ذو الوجه المنتفخ والـ... أعني… لقد كان علينا عدم التهور بكل تأكيد".

عدل هارليك من حديثه وصمت عندما رمقه أوكتيفيان بحدة، تنهد بينما يدلك رأسه وربت على كتف رومياس "لا تعتذر، إنهم يضغطون علينا جميعًا، حاول تمالك نفسك". أشار بعينه نحو جوزفين الذي بدا مكفهر الوجه وفتاةٌ ما تتحدث معه بدت شبيهةً بشخصٍ أعرفه.

"إنها شقيقة صاميومين" قرأ أوكتيفيان السؤال على وجهي ليجيب ويكتف ذراعيه ويشير نحو ثونار وزوندي الذي بدا متوترًا بعض الشيء ومجموعةٌ تتحدث معه وقال: "رجال جلين". ثم أشار للافيان وتينر جام الذين كانا شبه هادئين، ولكن كنت أعلم أنهما يتظاهران أمام الرجلان الواقفان معهما "رجال ألفن".

التفت نحوي وقال: "إنهم يتسلون علينا الليلة في محاولةٍ لإخماد غضبهم مما حدث؛ لذلك لا ألوم أحد، الاثنان القادران على التصدي لهم دون انزعاجٍ هما ثونار وأرتيانو، كلٌ منهما يملك مهارةً في قلب الطاولة ببعض الكلمات".

إنه محق، الأمر مقصود بالكامل، الملاعين حقًا يحاولون أن يصلوا بنا للحافة.

"أعلم أنكِ تريدين فعل شيءٍ ما، وأنا أيضًا، ولكن عليكِ أن تثقِي بهم، سيتكفلون بأمرهم دون مشاكل ولكن إن تحركتِ وفعلتِ شيئًا سيأخذون ما يريدون. انفعالك في مكانٍ كهذا ولفت الأنظار نحوك، هذا ما يريدونه، جلنار، لذلك تمالكِ نفسكِ ودعي الباقي للفرسان"

لم أكن قلقة عليهم كثيرًا، ولكن كنت أشعر ببعض الذنب، إنهم يتعرضون لهذا الضغط وأنا من أعطى كامل الأوامر.

التفت نحو هارليك الذي أمسك يدي وابتسم ابتسامةً واسعة قائلًا: "نحن معًا في هذا". ابتسمت له في المقابل وربت على رأسه.

"دراما دراما دراما!" صاح يوجين بنبرةٍ غنائية مثيرًا رغبتي في الضحك.

"راقبي هذا" قال هارليك واتجه نحو شقيقة صاميومين التي تزعج جوزفين وسحب ردائها بخفةٍ لتنظر نحوه بتعجب.

لم أسمع ما يقول، ولكنه لم يتوقف عن الكلام وأنا أعنيها حرفيًا، ظل يثرثر بشكلٍ متواصل مما أربكها قبل أن تبدأ ملامح الانزعاج ترتسم على وجهها وتعتذر منهما وتتحرك مبتعدةً ليصرخ هارليك: "لكني لم أنهِ حديثي!".

انفجر يوجين في الضحك وأخفيت وجهي عندما كدت أضحك. "هذا الفتى حقًا" تمتم أوكتيفيان مبتسمًا وأردف: "سأتولى أمر البقية".

تنهدت ونظرت للمكان الضخم والذي لم يكن مسليًا تمامًا. "لم تحاولي التدخل!" التفت نحو رومياس الذي مسح رقبته في بعض الضيق وقال: "ظننتكِ ستدخلين عندما تحدث دول". رفعت حاجبي وقلت: "لمَ؟". ارتفعت عينه نحوي متفاجئًا وتلعثم لثوانٍ، لكني أوقفته وقلت بجدية:

"رومياس، يومًا ما سأذهب... جميعنا سنعود من حيث جئنا ولن يكون هناك شخص موجود دائمًا للرد عوضًا عنك. أنت تمتلك صوتًا، رومياس، عليك التعلم متى يجب أن تستخدمه، إن لم تساعد نفسك… لن يساعدك أحدهم"

تمامًا كما كنت، لم أعلم متى وكيف علي استخدام صوتي. عشت دور الضحية على أمل أن يأتي شخصٌ يومًا ما للدفاع عني، ولكن أيقنت، طالما لا أدافع عن نفسي فلن يدافع عني أحد، على رومياس أن يدرك هذا، المخطئ من يحق له السكوت، ورومياس لم يخطئ في شيء، كما لم أفعل أنا!

"لكني أتجمد" نظرت نحوه بينما نظر هو لكف يده التي ابيضت لشدت ضغطه عليها "أنا أتجمد، هناك الكثير يدور داخل رأسي، لكني لا أتمكن من أقوله". أمسكت بيده ليرفع نظره نحوي "طالما تشعر أن الجميع أفضل منك وأنت أسوأ منهم فلن تتحدث، رومياس، عليك أن تعلم أنك مثل الجميع، لا أحد أفضل منك وأنت لست أفضل من أحد، جميعنا سواسية، عليك أن تتعلم كيف تتحدث".

زفر قبل أن يومئ دون أن يضيف شيئًا آخر.

لن يحدث الأمر بين يومٍ وليلة، ولكن إن ظل مؤمنًا بأن شخصًا ما سيقوم بإنقاذه فلن يحاول حتى، لا أحد ينقذ أحدًا طالما لا تحاول إنقاذ نفسك، كان علي إدراك هذا منذ وقت طويل.

"ها نحن ذا نلتقي مجددًا" التفت نحو صاحبة الصوت التي تقدمت نحوي بابتسامةٍ هادئة وجميلة، عينها البندقية نظرت لرومياس وحيته بإيماءةٍ سريعة لينحني باحترامٍ وتوتر قائلًا: "يسعدني لقاؤك، جلالة اللأميرة". أومأت برأسي نحو شقيقة الملك الأميرة جومانا كترحيبٍ وابتسمت قائلة: "من الجميل أن نلتقي مجددًا".

عينها تفحصتني لثانيةٍ وأثنت في إعجاب: "تبدين مذهلةً اليوم، يا له من ثوبٍ جريء! لا يملك الجميع الثقة لارتدائه". شكرتها وتلقائيًا تفحصت ثوبها ذا اللون الأرجواني الهادئ، لم يكن مبالغًا في ضخامته كالبقية، كان جميلًا، خاصةً أنها رفعت شعرها بالكامل للأعلى بشكلٍ منظم.

"تعلمين؟ أنا ممتنةٌ لمجيئك، قد لا يبدو هذا واضحًا على الأميرة، لكنها تشعر ببعض الاطمئنان عندما تكونين هنا، يشعرها الأمر بأنه بإمكانها الاعتماد على أحدهم" صمتت لثوانٍ وذبلت ملامحها ببعض الحزن…

"الأميرة تحاول أن تتماسك لتبدو قوية، ولكنها تعاني في كل يومٍ يمر دون أن تعرف مصير الملك، والدها، ربما لا تظهر هذا ولكنها تشعر بخيبة أمل، كانت تظن أن الملك سيكون محتجزًا في إحدى المقاطعات ومع انزياح جنود الظلام سنجد الملك كأحد الأسرى، ولكن..."

تنهدت واتجهت عينها تلقائيًا نحو الأميرة التي كانت تتحدث مع أحد الضيوف بابتسامةٍ رسمية ووجه جامد وأردفت: "لقد كانت تضع أملًا كبيرًا في هذا الاحتمال، ولكن مع الأسف القدر له خططٌ أخرى، الملك مفقودٌ رسميًا ولا نعلم في أي مكان في الكون قد يكون".

كيف نسيت هذا الأمر؟ الملك لم يكن موجودًا في البرج أو في إحدى المقاطعات! هذا يعني أن وجوده على أرض الإريبوس هو احتمال كبير، إن... إن كان ما يزال على قيد الحياة.

لهذا بدت الأميرة محبطة!

"لقد أعطيتكِ وعدي، أيتها الأميرة. لم ينتهِ الأمر بعد، الحرب بيننا ابتدأت للتو، طردهم من المملكة لا يعني انتصارنا، سنجد الملك وسنعيده سالمًا وسينتهي هذا الكابوس" لا أعلم من أين لي الثقة عندما أتحدث وأضع الوعود، ولكن أملك إيمانًا قويًا بأن بإمكاننا التغلب على هذا.

قد نبدو كمجموعةٍ همجية ومتناقضة تمامًا، ولكن على العكس، كل فردٍ منا موجودٌ حتى يكمل الآخر، إني أثق تمامًا بالفرسان كما يفعلون هم في المقابل.

كانت هناك نظرةً لم أستطع تفسيرها على وجه الأميرة، لكنها كانت متفاجئةً وهذا قد كان واضحًا قبل أن تبتسم برضى وتقول: "أنتِ تتحدثين تمامًا كأخي الكبير، كل هذه الثقة في صوتك، تذكرينني به، سأضع ثقتي بك لتعيديه سالمًا".

حسنًا، هنا يمكن القول إنني فزعت داخليًا لدقيقةٍ ربما، ذلك النوع من الفزع الذي يصاحب اعتماد أحدهم عليك، ماذا إن لم أكن أهلًا للأمر؟ لكنني رميت هذه الأفكار بعيدًا وساعدني في ذلك يوجين الذي كان يقوم بالنفخ على مؤخرة عنق دول وفي كل مرةٍ يلتفت فيها ينفجر ضحكًا.

دحرجت عيني لتصرفاته، ولكن جذب انتباهي ضحكة شقيقة الملك قبل أن تنظر للخلف وتقول: "يبدو أن هذه الحفلات ليست من طرازك". اتسعت عيني وشعرت بالإحراج، أيمكنني دفن نفسي؟

"لا، الأمر ليس كذلك، لم أكن أقصد، أنا فقط...." تلعثمت مما دفعها لتحريك يدها بـ (لا بأس).

"أحيانًا أشعر بالاختناق هنا، تعلمين؟ يمكنك الهرب للشرفة لبعض الوقت وأخذ أنفاسك، سأغطي على غيابك" غمزت في النهاية وناولتني كوبًا من العصير الخالي من الكحول، ثم دفعتني بخفةٍ نحو شرفةٍ ضخمة كان بابها شبه مفتوح.

ابتسمت للطفها وتسللت للشرفة الهادئة لأتنفس بعض الهواء النقي.

كان كل شيءٍ أفضل هنا وأكثر هدوء، والأفضل أنني لن أتمكن من رؤية وجوه النبلاء وهذا يريح أعصابي.

وقفت مستندةً على سور الشرفة القصير أحدق بحديقة القصر الضخمة.

جنوب المملكة، جذب انتباهي ضوءٌ ضخم ودخانٌ يتصاعد نحو السماء، كاد الهلع يتملكني لثانية، لكني تذكرت حلقة النيران التي تُقام اليوم.

يبدو الأمر كما لو أنهم يحظون بكامل المتعة، عكس الأجواء المشحونة بالعداوة هنا، تنهدت بشفقةٍ على حالي وارتشفت من الكأس الذي بقى بين يدي لمدة، لم أفلح في تخمين ما قمت بارتشافه توًا، لكن الطعم الحلو الذي مر على طرف لساني لم يكن بذاك السوء.

كانت أضواء الاحتفالات تتلألأ على مرمى بصري مما دفعني للتفكير بالوقت، لا أظن أن الساعة قد دقت معلنةً حلول منتصف الليل؛ مما يعني أن الرقصة لم تبدأ بعد.

هل أتريوس هناك؟ بما أنه لم يأتِ إلى هنا فربما هو هناك، أو ربما يقضي وقته وحيدًا في مكانٍ ما! ذلك الأحمق.

لحظة! أيمكنني الهروب من هنا؟

وقفت على أطراف أصابعي ونظرت للارتفاع، لم يكن شاهقًا، وبصراحة قدمي الآن أقوى مائة مرةٍ من قدمي سابقًا، الرياح بإمكانها أن تساعدني على أن أهبط بأمان، ولكن أوكتيفيان قد يحولني إلى لحم شواء.

"القفز من هنا ليس فكرةً سديدةً للهرب"

أجفلت بقوةٍ لدرجة أنني أفلت الكأس الزجاجي ليقع أرضًا، انتظرت صوت التحطم المصاحب لاصطدامه بالأرض، لكن كل ما سمعته كان صوت تيارات الهواء التي اشتدت من حولنا.

الكأس كان يطفو بفعل الهواء من حوله حتى ارتفع واستقر فوق سور الشرفة، عيني اتجهت مباشرةً للشخص الذي جلس فوق السور ولم ينظر نحوي حتى أو نحو الكأس، ولكن بالرغم من ذلك تمكن من التحكم بعنصر الهواء ببراعة.

عقدت حاجبي عندما لاحظت أني رأيت هذا الرجل من قبل، وكنت محقةً لأنه ما أن التفت نحوي تلك الأعين الباردة كان بإمكانها أن تعيد ذكرى ذلك الشعور السيء الذي مر بجسدي.

رفع حاجبه نحوي عندما لاحظ تجمدي وقال: "تبدين كمن رأى شبحًا". في الواقع أنا بالفعل أرى واحدًا؛ لذلك لن أتفاجأ إن كانت الأشباح هي ما أراها. "أنت شقيق الملك الأصغر، الأمير سابلين!" يمكن معرفة من أين اكتسبت الأميرة لون شعرها الأسود، في الواقع لاحظت أنها تشبهه كثيرًا!

"لم أكن أعلم أن أحدهم هنا سابقًا، أعتذر لإزعاجك" حاولت أن أكون لبقةً قدر المستطاع قبل أن أقرر الانسحاب من المكان دون التشابك معه، ولكنه كان يملك رأيًا آخر في هذا الموضوع "هذا غريب، تبدين أكثر هدوءً مما سمعت، لا تبدين كشخصٍ فظ".

رفعت حاجبي والتفت وكررت الكلمة بنبرةٍ تهكمية: "فظ! أنا فظة؟ وكيف لي أن أكون فظة؟". كتفت ذراعي مما دفعه للالتفات نصف التفاتةٍ نحوي وقال بنبرة ساخرة: "أحدهم أخبرني".

"حسنًا، أخبر أيًا يكن ذاك الأحمق أن يتحلى بالجرأة ويخبرني بها في حضوري. مملكةٌ تفقدني صوابي!" تمتمت بالجملة الأخيرة والتفت بنية الذهاب مجددًا. "يبدو أنه كان محقًا في النهاية"

تمتمته نجحت في إيقافي مجددًا لأكتم غيظي وأحاول ألا أنفعل في وجه الأمير بعد أن نجحت في تجنب النبلاء "جلالتك، لا أريد أي فضيحةٍ اليوم وأنت لا تساعد البتة، أرجو أن تتوقف عن الحديث معي".

في ثانيةٍ كان قد وقف بسرعةٍ من الصعب ملاحظتها وأصبح واقفًا قبالتي بنظرةٍ حادة وقال بصوتٍ جامد: "راقبي فمك، أنتِ تتحدثين مع سمو الأمير، أيتها البشرية. من الجيد أن تعلمي أين أنتِ، وأين أنا". حسنًا، لقد حاولت تجنب المشاكل، حاولت، ولكن هذه العينة بالذات من الصعب تجاهلها.

رسمت ابتسامةً باردة وقلت: "أعلم أين أنا وأين أنت، أنا ابنة التوبازيوس التي تحاول إنقاذ مملكتك بينما أنت الأمير الذي يبقى محتميًا داخل قصره متبجحًا بمكانته".

كنت أنتظر غضبًا أو تهكمًا أو حتى انزعاجًا، لكنه لم يبدِ أي رد فعل يذكر إلا ابتسامةً صغيرة وكأنه يحظى بتسليته، ثم أسند ظهره على الجدار قبل أم يبعثر شعره الأسود بملل "أوه! هذه كانت جيدة".

نظرت نحوه بتعجب، وفي الواقع كنت أجهل ماذا يريد بالضبط. "أنتِ تحكمين على مظاهر الأشخاص، لن تصمدِي طويلًا بهذه الطريقة، أيتها البشرية"

انزعجت لجملته وقلت بثقة: "لا أصدر أحكامًا على أحد، تعامل الجميع يحدد من يكونون". زم شفتيه لثوانٍ وهو ينظر نحوي مما دفعني للتعقيب قائلة: "كما أن لي اسم، أنا جلنار ولست البشرية".

رفع كتفيه كإجابةٍ والتفت هو بنية الخروج من المكان، ولكنه توقف ودون الحاجة للنظر نحوي قال: "لن يتعامل الجميع معكِ على أساس من يكونون، بل على أساس كيف يريدون الظهور أمامك..." صمت لثانيةٍ قبل أن يقول بابتسامة جانبية: "يا جلنار التي ليست البشرية".

لم أفهم ما الذي يريد إيصاله بالضبط؛ لذلك صحت به قائلة: "ماذا تعني؟ فقط قل ما تريد بشكلٍ صريح". تنهد ونظر نحوي بنظرةٍ كان من الصعب تفسيرها "لا تثقِي بأحد، إن أردت النجاة لا تثقِي بأحدٍ إلا نفسك".

لم يترك لي المجال للإجابة لأنه خرج من الشرفة، وعندما تبعته حيث قاعة الحفل كان قد اختفى، حرفيًا من السهل ملاحظة رجل بملابس سوداء بين تلك البدل البيضاء، لكنني لم ألمحه حتى، مريب!

عدت للشرفة مجددًا وأنا أشعر برغبةٍ في تحطيم رأسي ورأس ذلك الأمير، ألم أكن مشوشةً كفاية؟ لمَ عليهم زيادة الأمر تعقيدًا؟

"أتحتاجين لرفقة؟"

أغمضت عيني أشعر بصبري ينفد وصداع رأسي يصبح أسوأ، لم أكن في حاجة لألتفت لأعرف من يتحدث، الصوت الهادئ واللعوب يعود لنبيلٍ واحد لن يتركني وشأني.

"لا، يمكنك الذهاب" رفضت باختصارٍ ولم أكلف نفسي عناء الالتفات نحوه ليضحك بسخرية ويقول: "أوه، هذا رفضٌ قاطع، ليس من الرائع رفض شابٍ وسيم، خاصةً إن كان نبيلًا".

"ماذا تريد، بنجامين؟ لا أملك المزاج المناسب للعبث معك" قلت بحدةٍ وجدية ليقف بجواري ويسند ظهره على السور بينما يقابلني بوجهه. "من أغضب الصغيرة؟" نبرته الساخرة دفعتني للنظر بطرف عيني نحوه "لا تريد لهذه الصغيرة صب جل غضبها في وجهك، حينها لن تتمكن من التفاخر به هنا وهناك بين النساء".

ضحك بقوة وكان ضحكًا جديًا لا ساخر قبل أن يمسح دموع عينه ويقول: "حقًا صحبتك مسلية". زفرت بانزعاجٍ وقلت: "لا أظن أن خطيبتك الساخطة ستحب سماع هذا". لثوانٍ تبدلت ملامحه لأخرى منزعجة وبدا وكأنه تمتم بشيءٍ ما، لكن لم أنجح في سماعه.

"لا تقلقِي، فيوليت متفهمة، لن تمانع مشاركتي مع أخرى ليومٍ واحد"

رسمت ملامح متقززة مما دفعه للضحك مجددًا.

عندما يئست من فكرة بقائي وحدي قررت الذهاب من هنا، لكني تجمدت عندما قال: "أعلم من تكونين بالفعل". لم أتحرك وحاولت التفكير في خطوتي التالية، لكنه وفر عناء التفكير عندما أردف: "الفتاة الغامضة التي ظهرت فجأة، بملابس لا تنتمي لنا، وأسلحةٍ لا نعلم عنها شيء، ثم شيئًا فشيئًا نسمع عن فتاةٍ تمتلك المواصفات ذاتها تروض تنين شفقٍ وتحارب جنود الإريبوس".

كان يقف خلفي تمامًا قبل أن يمسك خصلةً من شعري يلفها حول إصبعه ويهمس بالقرب من أذني: "لم أعلم كم يمكن للبشر أن يكونوا مميزين".

سيء... سيء جدًا.

لم يكن بنجامين بحد ذاته ما يثير خيفتي أكثر مما كان يفعل أسلوبه الملتوي وذكاءه الحاد، شعرت بالقلق وبقلبي ينبض بقوةٍ محذرًا من خطورة الموقف.

من المفترض ألا يعلم أحدٌ بهذا الأمر حتى تقرر الأميرة متى سيعرف الجميع، كيف استطاع اكتشاف الأمر؟

أخرج ضحكةً مندهشة ووقف أمامي ينظر لوجهي الجامد والذي أحاول التحكم فيه بصعوبة "أتعلمين؟ تلك كانت المرة الأولى التي يدهشني فيها شيءٌ لا أعرفه، لقد شعرت بذهني ينفجر لوهلة، هذا يفسر لما شعرت بأنكِ مختلفةٌ منذ لقائنا الأول، ولكن بشرية؟ من كان ليخمن هذا؟".

ضحك ضحكته المعتادة، التي تخبرك أنه يتحكم بالموقف وقادرٌ على دفعك للحافة "من المفترض أن يكون هذا سرك الصغير، لكن هذا السر الصغير سيسبب ضجة كبيرة إذا انتشر عن طريق الخطأ".

أخذت نفسًا قويًا وحاولت التفكير في جميع الاحتمالات الممكنة، من الصعب التعامل مع بنجامين، الأمر أشبه بأنك تمشي على أرضٍ مليئة بالألغام وقد تكون خطوتك التالية هي الخطوة الأخيرة.

كان يمكنني التفكير في جميع الخدع والأكاذيب في هذه الدقيقة، ولكني أدركت أنه سيد الخبث هنا، لقد عرف سرًا لا يعرفه سوى قلة وهذا يثبت نظرتي له، رجل واسع الحيلة.

"إذًا ماذا ما هي خطوتك التالية؟" تشوش للحظةٍ عندما قلت بهدوء وحاولت نسيان انفعالي المعتاد، عندما لم أحصل على إجابة قلت: "أجل، أنت محق، أنا بشرية. أسياد النبلاء يعلمون، بالإضافة للأميرة والحكماء والفرسان، والآن أنت تعلم أيضًا، لذا بنجامين ألفن، ما هي خطوتك التالية؟".

تحركت بعيدًا عنه نحو السور وأسندت ظهري عليه بينما أواجهه "تستغلني؟ تخبر الجميع؟ تتبجح بمعرفتك بالأمر؟ ماذا ستفعل الآن؟ مبارك، لقد عرفت السر المحرم، والآن ماذا؟".

التعبير البادي على وجهه كان كفيلًا بإخباري أنه لم يتوقع رد فعلٍ كهذا، لم أكن أتوقعها أيضًا لولا أني وعدت الفرسان أن أتوقف عن التصرف باندفاع، وأيضًا لأنني اكتشفت أن الحيلة لن تنطلي على بنجامين، إنه صاحب الحيلة؛ لذلك لن أحاربه في ملعبه، سألعب على الحقيقة التي يظن أنها تخيفني.

تمكن من التحكم بتعبيره، وضع ابتسامةً مستمتعة فوق ثغره، ثم تحرك بخطواته متجهًا نحوي ولم يقطع توصلنا البصري. لم يفصل بيننا سوى مسافة قصيرة أثارت حنقي، مال نحوي وأسند يده فوق سور الشرفة محاصرًا جسدي بين جسده والسور.

"هذا مشوق، لقد كنت أنتظر رد فعل مختلف حقيقةً، ولكنك تضعينني بموقفٍ سيء، تجعلين خياراتِي محدودة"

اقتربت منه أنظر له بتحدٍ وقد أخفيت انزعاجي لقربه ببراعة وهسهست أمام وجهه: "افعل ما تريد، بنجامين، لقد سأمت ألاعيبكم بالفعل".

رفعت يدي نحو صدره لأدفعه بخفةٍ لأحصل على مساحتي الشخصية مجددًا وأردفت: "أنا هنا لتأدية مهمةٍ واحدة والعودة من حيث أتيت، أنا هنا لإنقاذ مملكتك والواقع الذي تعيش فيه، زرع الفوضى في الأرجاء لا يهمني، تلك ستكون مشكلتك مع الأميرة".

لم أكن أتظاهر، أجل، سيكون من السيء إفشاء هذا السر في وقتٍ كهذا، ولكني لا أملك شيئًا أفعله ضد بنجامين، لا أملك شيئًا ضده ولا أنوي تحويله لجثةٍ ودفنه في حديقة القصر؛ فهذا لن يكون ظريفًا.

"لمَ؟"

عقدت حاجبي باستغراب ليكرر هو مجددًا: "لمَ؟ لمَ عليكِ إنقاذ واقعي؟ مملكتي؟ لستِ مجبرةً على هذا". ضحك بسخرية وبدا صوته باردًا عندما قال: "نحن لا نهتم لأمر المملكة اللعينة، فلمَ تهتمين أنتِ؟".

راقبت ملامحه الساكنة وهو ينظر بعيدًا عني نحو النيران الضخمة المشتعلة "لا يجب أن أملك سببًا لإنقاذ شخصٍ على قيد الحياة، ولأن الحياة لا تدور حول ما يريد النبلاء أو حول ما يهتمون به فهناك أشخاصٌ يحبون هذه الأرض ومستعدون للدفاع عنها دون مقابل، ولأن واقعي أنا مقترن بواقعك شئتُ أم أبيت، وإن سقطت هذه المملكة يسقط الجميع، وسيكون وطني هو التالي".

نظرت نحو السماء من حيث أتيت، بعيدًا حيث منزلي الذي سأسعى لحمايته حتى إن لم أتمكن من العودة له "أتعلم؟ من الخسارة وجود شخصٍ ذكي مثلك في مستنقع النبلاء هذا، كنت لتصبح ذا فائدةٍ كبيرة لنا".

رفع حاجبه نحوي وقال ساخرًا: "لقد ولدت في هذا المستنقع، ذلك لم يكن اختيارًا". قررت تركه هنا وحده، ولكني لم أمنع نفسي عندما قلت له:

"كونك ولدت في المستنقع ليس تبريرًا لبقائك فيه، توقف عن الكذب على نفسك، بنجامين"

زفرت نفسًا أشعر بثقل الجو فجأة وتجاوزت باب الشرفة عودةً للحفل لأتحمل هذا الهراء حتى ينتهي.

أبعدت الستار ذات الخامة الغالية وخرجت من الشرفة، قابلتني فيوليت وبدت مذهولةً عندما لمحت بنجامين يقف في الداخل وأنا أخرج من المكان ذاته، ولكن ذهولها تحول إلى غضب وكادت تفتح فمها، منعت أي شرار قد يبدأ بيننا عندما تجاوزت جسدها وكأني لم أرها من قبل وأكملت طريقي دون توقف.

لم تكن لتخاطر بالصراخ باسمي -إن كانت تتذكره- بصوتٍ عالٍ؛ لذلك قررت الحصول على تفسير من خطيبها الواقف على الشرفة، الفتى المسكين أمامه يومٌ طويل.

"أين كنتِ؟" يوجين الذي وقف بجواري سأل على الفور لأشير للشرفة بعيني. "ظننت أنكِ ستقفزين من الشرفة إن وجدتها" أردت بشدة فعل هذا؛ فهناك حفل آخر يبدو أكثر متعة من هذا المكان، ولكني حاولت منع نفسي بقدر الإمكان.

"هذا المكان ممل حقًا" زفر يوجين وهو ينظر حوله بملل.

"وأظنه سيبقى هكذا لمدةٍ طويلة" همست عندما لمحت جلين ومعه مجموعةٌ كبيرة كانت تقف على مقربة مني، ما أن لمحني ابتسم أكثر ابتسامةٍ خبيثة يمكن أن تراها في حياتك بالرغم من ظهورها للآخرين كابتسامةٍ عادية.

رفع يده مشيرًا لي ودعاني للانضمام لهم.

رفعت حاجبًا نحوه، هل يتوقع مني المجيء بصدر رحب؟

تذكرت أن تجنب المشاكل هو شعار اليوم؛ لذلك… يبدو أنني سأذهب بصدرٍ رحب.

لم أكلف نفسي برسم ابتسامة وتحركت نحو المجموعة التي بدأت تنتبه لاقترابي منهم. "من الرائع رؤية الجميع في هذا الاحتفال معًا، أليس كذلك؟ لقد كنا نتحدث للتو عن فرساننا الذين كانوا سبب سعادتنا هذا اليوم" بنبرةٍ سعيدة وأكاد أقسم أنها مصطنعة خاطبني ليومئ الجمع من حولنا مبتسمًا.

أومأت دون الحاجة للرد، المرأة الواقفة على يمين جلين ناولتني كأسًا من المشروب الذي رفضته لتبتسم باستمتاع قائلة: "أحدهم يحافظ على صحته". ضحك الجميع وأردت حقًا قتل نفسي لوقوفي بينهم.

المرأة ذاتها لم تكن غريبة؛ فقد تعرفت عليها على الفور، كانت شقيقة صاميومين، ولكني لا أعلم اسمها ولم تحاول التعريف عن نفسها.

"لقد سمعت أن كثير من المحاربين قد تمت دعوتهم للحفل الملكي اليوم، لهذا المكان مزدحم، يا له من احتفال! لا بد من أنكِ أحد المحاربين، صحيح؟". أنهت جملتها بنظرة تتفحصني بالكامل دون خجل، ولكني تجاهلت الأمر وأومأت مجددًا.

"هذا غريب! لا أتذكر أننا تقابلنا من قبل، لأي عائلةٍ نبيلة تنتمين؟"

كتمت غيظي بقوةٍ ونظرت لعينها ببرود مجيبة: "لا أنتمي للطبقة النبيلة". بدت الدهشة بادية على معظمهم كما بدت مصطنعةً على وجه شقيقة صاميومين التي قالت: "لا بد من أنكِ إذًا من العائلة الملكية". رفعت حاجبًا نحوها ونفيت الأمر ببرود.

"لا أظن أنكِ ستكونين قادرةً على نطق اسم موطني حتى" أنهيت هذه اللعبة بجملةٍ ساخرة موجهة لشقيقة صاميومين.

الجميع صمت ونظر نحوي في تعجبٍ وبدت شقيقة صاميومين تترقب شيئًا ما، لكني أنهيت جملتي بضحكةٍ ساخرة قائلة: "تعلمين، لأن النساء من الطبقة النبيلة يمكنهم نطق أغرب أسماء الثياب ومساحيق التجميل، لكن من الصعب عليهم نطق اسم مدينةٍ بشكل صحيح".

الغالبية حولنا كانوا ذكورًا وهذا ما دفع الجميع للضحك ظنًا أن حس الفكاهة الذي أملكه عالٍ، بينما لم تكن سوى إهانة واضحة لها، فهي تعلم وأنا أعلم أنها أذكى بكثيرٍ من مجرد شخصٍ مهتم بالثياب والإطلالة؛ لذلك كتمت غيظها بابتسامةٍ مجبرة ونظرت لجلين وكأنها تطلب منه إغاظتي في المقابل.

"إلهي، النساء مخيفات عند الغضب، انظري لقبضتها" يوجين علق مما دفعني للنظر ليدها وأكاد أجزم أن أظافرها تركت أثرًا سيئًا في راحة يدها.

"لكن كان من الجيد ما فعله الفرسان من أجلنا، بالرغم من ارتكابهم الأخطاء في البداية فقد نجحوا هذه المرة على الأقل" ضحك الجميع لنكتة جلين التي لم أرها مضحكةً على الإطلاق، إنه يعلم كيف يفجر غضبي، ولكن ليس اليوم.

"بالمناسبة، سيد جلين! سمعت أن أحدهم اقتحم قصرك واعتدى عليك أمام ضيوفك، لقد نُشر مقطعٌ مصور أيضًا، كم هو وقحٌ ما يمكن للآخرين فعله هذه الأيام" تبعت جملتي الدرامية البحتة ابتسامةٌ جانبية تلاها ضحك يوجين العالي وتهكم تعبير جلين الذي حاول إخفائه.

"لقد سمعت عن هذا أيضًا، كان أحد أقاربي حاضرًا لحفلك، سيد جلين، لا أعلم كيف يمكن لشخصٍ أن يقتحم قصرك بهذه الطريقة الوحشية" أحد الواقفين قال لتدور الهمهمة بين الجميع ويُجرح كبرياء جلين أكثر وأكثر.

"لم يكن الأمر اعتداءً بشكل كامل، بالطبع دافعت عن نفسي ومنعت أذية أي شخص وتم طرد الدخيل من المكان على الفور، من الصعب التحكم بسكان الحدود هذه الأيام"

ضحكةٌ مكتومة تسللت مني حاول هو تجاهلها، ولكني توقفت عن كلمته الأخيرة، سكان الحدود!

"هذا غريب سمعت أن الشخص كان ضيفًا لك! فلن يسمح أحدهم لأحد سكان الحدود بدخول قصرك الكبير!" تظاهرت بالاستغراب ليتفق الجميع في همهمة؛ مما أثار غيظ جلين. "لمَ لا نغلق هذه الأحاديث المثيرة للمتاعب؟ في النهاية نحن نحتفل" قالت شقيقة صاميومين مغيرةً الموضوع وألقت نحوي نظرةً نارية قابلتها بابتسامةٍ باردة.

"أحيانًا أشعر بأنكم تمتلكون لغة تواصل أخرى نحن الذكور لا نعلم عنها شيئًا" تمتم يوجين وهو يحدق بنظراتي ونظرات شقيقة صاميومين التي ما زلت أجهل اسمها.

"بالحديث عن المفاجئات، الجميع كان متفاجئًا من التحرك العسكري المفاجئ، لقد كانت ضربةً جيدة من الأميرة" أحدهم قال ليتفق معه الحاضرون. "لكن من المزعج وجود سكان الحدود على أراضينا أكثر من هذا، كولونيل أمبريث" امرأةٌ ما تدخلت فجأة بدت في الأربعينات تقريبًا ونوعًا ما كانت تملك وجهًا قاسيًا ذا ملامح حادةٍ وفكٍ عريض، ولكنها كانت ذات جسد رشيق وأعين خضراء لامعة مما أعطها لمحة من التميز، ولكن بالرغم من هذا فقد بدت ملامحها قاسية نوعًا ما.

تعلقت في ذراع جلين وطبعت قبلةً صغيرة على وجنته استقبلها بابتسامةٍ صغيرة، عيني اتجهت لا إراديًا نحو أصابع الاثنين، لكني لم أجد أي خواتم زواج.

لحظة، هل يضعون خواتم زواج هنا؟

"سيدة جلين، وأنا من كان يتساءل أين كنتِ طيلة الوقت!" الرجل ذاته علق قبل أن يقبل ظهر يدها اليمنى بلباقةٍ مبالغ فيها برأيي.

سيدة جلين! هي بالفعل زوجته، يبدوان مناسبين لبعضهما بالرغم من شعوري بأن جلين يبدو أصغر منها.

عينها اتجهت نحوي ببرود، وبنظرةٍ استعلائية لم تحاول إخفائها حتى قالت: "لم نتشرف من قبل". مال يوجين نحوي هامسًا: "إنها تبدو كمديرة مدرسةٍ داخلية". إنه محق تمامًا.

"لا، لم نفعل" قلت بلا مبالاةٍ دفعتها لرفع حاجب، ولكنها تمالكت نفسها وقررت أنها لن تخوض هذا النزال وقالت: "إنديا جلين، السيدة الأولى لعائلة جلين" أومأت وقلت: "جلنار روسيل". اختصاري في التعريف كان سببًا في تعجبها، ولكنها فضلت الصمت وعدم الاهتمام في ظنها أني مجرد شخصٍ لا يبدو ذا مكانةٍ بارزة.

"أنتِ محقة، سيدة جلين، أتمنى أن لا يطول هذا الوضع كثيرًا" رجلٌ آخر علق على جملتها المتعلقة بسكان الحدود ونظر نحو جلين قائلًا: "عليكم فعل شيءٍ ما، من المزعج اختلاط هؤلاء الهمج بأولادنا، خاصةً في هذه الأوقات الحساسة".

أخذت نفسًا قويًا وكررت كلمة (اهدئي) مائة مرةٍ داخل عقلي، وعندما لم ينجح الأمر بدأت العد عكسيًا من المائة. "أنت محق بالفعل، زوجتي تخاف الخروج من المنزل هذه الأيام، قد تتم سرقتها أو ما هو أسوأ" ربما إن توقفتم عن كونكم بهذه الحقارة من الممكن أن تلاحظوا أنكم الكائنات الوحيدة التي يجب أن يخشى المرء على نفسه منها.

"لا تقلقوا جميعًا حول هذه التداعيات البسيطة، قادة النبلاء سيقومون بما عليهم فعله دائمًا، عليكم تفهم أن الأميرة قد وجدت نفسها مجبرةً على الحكم بالرغم من عدم كفاءتها وصغر سنها؛ لذلك نحن هنا"

ألفن!

هذا الرجل أشبه برأس الكوبرا، يبدو كأكثر النبلاء ثباتًا، ولكني قد أراهن على خباثته، يكفي أنه والد بنجامين وفلوريان!

لم أكن لأتماسك أكثر من هذا، خاصةً أن كلمة تداعيات بسيطة، وعدم الكفاءة، كانت موجهةً لي وهذا واضح، ولكنه لم يلتفت نحوي حتى ولم ينظر ولو نظرةً خاطفة.

"تمالكي نفسك" يوجين همس بجوار أذني لآخذ نفسًا وأقول بصوتٍ ثابت جذب انتباههم: "بالطبع، فعلى النبلاء في النهاية تنظيف فوضاهم". بدا الارتباك على وجوههم وهم يبدلون أنظارهم بيني وألفن، ولكني تابعت بلا مبالاة:

"فما كانت تلك الفوضى لتحصل لو لم يعطي السيد جلين أوامره بإبعاد الحراس عن المقاطعات الثلاث، بالطبع لقصره الأهمية الكبرى، ولكن بسبب أوامر النبلاء غير المدروسة يعاني الكثير من وجود سكان الحدود على أراضي النبلاء"

يمكنني الجزم أن جلين يكاد يقطع رأسي في هذه الثانية، والدليل على ذلك يد ألفن التي ربتت بشكلٍ سريع وغير ملحوظٍ للحضور على ظهره ليتمالك نفسه، ثم ابتسم ببرودٍ نحوي قائلًا: "أنتِ محقة، أيتها الآنسة. كان ذلك تسرعًا منا، ولكن جلين لم يكن يفكر سوى بكرامة عائلته المسلوبة، وليس في نفسه فقط، في النهاية كل ما نفعله لأجل النبلاء".

الجميع ابتسم في رضى وبدأت في ملاحظة أن المجموعة أصبحت أكبر.

نظرت لألفن بحاجبٍ مرفوع وقلت بنبرة شبه عالية: "ظننت أن كل ما نفعله هو لأجل المملكة!". نبرتي الحادة دفعت التوتر والدهشة بينهم، وألفن لم يزح عينه بعيدًا عني ولم أترك له الفرصة، محيت تلك الابتسامة السمجة عن وجهي وأنا أتوقف عن مجاراتهم في هذه التمثيلية المقززة.

"ربما على الجميع النضج والنظر لحقيقة الأمور، الإلترانيوس ليست مملكة النبلاء والعائلة المالكة فقط، إنها تقف على قدمها بسبب الطبقة الكادحة من العامة وسكان الحدود، المتطوعون من الجنود غالبيتهم كانوا من العامة وسكان الحدود بالرغم من افتقارهم للتحكم في عناصر قوية، إن ظللتم تستثنونهم فستنهار مملكتكم الحبيبة، وفي الواقع..."

عيني دارت بينهم ببرود وقلت: "لا تنخدعوا بقولكم إن الفرسان في خدمتكم! إن كنتم أذكياء كما تتظاهروا فالحقيقة هي أن الرابط بين الممالك قوي ولكنه خفي، ما سيحدث لمملكتكم لا محالة سيحدث لباقي الممالك المرتبطة بها، دمار المملكة الأم يعني دمار باقي الممالك، إنهم هنا لحماية واقعهم وأوطانهم، لا لاتباع أوامركم".

كانت الصدمة وعدم التقبل واضح على تعابير وجوههم، لقد اكتفيت من التظاهر. "إن كنتِ تظنين أنكِ قادرة على إهانـ..." قاطعت ألفن قائلة: "أنا بالفعل قادرة، أخبرتك من قبل، أنا لست من هنا، وقوانينكم لا تُسن علي، إن كنتم تريدون النجاة حقًا فربما هذا هو الوقت حيث تظهرون بعض الثناء لهؤلاء الأشخاص، تعلمون جيدًا أنهم إن قرروا التخلي عن المملكة فالرب وحده من سيكون قادرًا على إنقاذكم" نبرتي المنزعجة لم ترق لهم ولم أكن أهتم.

كاد جلين يفتح فمه، ولكن صوت أنثوي صدر من خلفي منعه قائلًا: "لمَ تبدون جميعًا في ذهول؟ الفتاة تقول الحقيقة التي تعرفونها جميعًا، دعونا نتوقف عن التظاهر!".

توقفت بجواري امرأةٌ في أوائل الأربعينات من العمر تقريبًا، عينٌ حادة ذات لونٍ أسود وشعرٌ مظفر باهتمام ذو لونٍ أسود وبشرة سمراء، بدت جميلة جدًا وجسدها كان ممشوقًا في الثوب الذي ارتده، بالرغم من ضخامته فلم يخفِ جمال جسدها.

تعبيرها كان ساخرًا ولكنه قوي في الوقت ذاته، وإن كانت من الأرض لجزمت أنها تعود لأصولٍ أفريقية أصيلة، ولكننا لسنا على الأرض.

بدا فجأة التوتر والنفور على وجوه الغالبية من هذه المرأة، وعلى الرغم من أن البعض كان مرحبًا بوجودها، ألفن وجلين أظهرها نفورًا مشابهًا للذي يظهرانه لي، وهذه درجةٌ عالية من الكراهية إن كنا صادقين.

عينها اتجهت لألفن بجرأةٍ وقالت: "دعني لا أبدأ في عد الانتهاكات التي قمت بها ضد سكان الحدود، ألم تكن أرضك في االغرب خاصةً بهم ولكنك حصلت عليها بشكلٍ لا قانوني بعد أن طردتهم جميعًا إلى المناطق الخاوية بلا مأوى أو أساسيات الحياة؟".

الهجوم كان مباشرًا وهذا لم يكن ليعجب كبرياء ألفن على الإطلاق؛ لذلك قال: "محاولتك في إثبات أشياء لا أساس لها لم تعد مجديةً، سيدة هاتينال. لقد كان الأمر قانونيًا بالكامل وقد أنذرنا الجميع بالخروج من الأرض ولم نطرد أحدًا بالقوة".

ابتسمت في سخرية وقالت: "هذه الأكاذيب يمكنك فقط الإخبار بها أمام العدسات، لا أمامي، لكن..." تنهدت بشكلٍ مصطنع وقالت: "إنه حفل في النهاية، من أنا لأفسده؟ لا نية لي بذلك، استمتعوا به رجاءً، وربما عليكم التوقف عن التظاهر بعض الشيء، الأمر يترك مرارةً سيئة على لسان الشخص إن حاول مجاراتكم".

لقد ظل الجميع يوصيني أن أتوقف عن الحديث بصراحة، ولكن ... هذه المرأة قدوتي منذ اليوم، لقد تركت أفواه الجميع مغلقة! من تكون بالضبط؟

"أنا حقًا معجبٌ بقوة هذه المرأة" أومأت متفقةً مع يوجين، ثقتها فقط مثيرةٌ للدهشة.

أجفلت لثانيةٍ عندما نظرت نحوي وابتسمت بحماسٍ وقالت: "لم نتعرف بعد، بما أن كلتينا غير مرحبٍ بها هنا -وهذا الأفضل بالطبع- فلمَ لا نذهب ونتحدث هناك؟" غمزت بعينها نحو زاويةٍ في المكان غير مهتمة بأنظار المجموعة المهاجمة لها.

أومأت موافقةً لتمسك بذراعي ونبدأ في المشي بعيدًا عنهم.

"لا تنظرِي نحوهم حتى، كوني الشخص غير المبالي، بالرغم من أني أظن انكِ لستِ بحاجةٍ لنصائحي، تبدين متمرسةً في هذا" ابتسمت نحوها وتنفست الصعداء، شخصٌ واحد طبيعي ولا يتظاهر هنا! لقد تم إنقاذي.

عندما وقفنا في زاويةٍ ما بجوار طاولة مأكولات عرضت علي كأسًا من المشروب، ولكني رفضته بلباقة لترتشفه هي كله وتضعه جانبًا.

"من النادر رؤية شخصٍ يدافع عن سكان الحدود كما تفعلين هنا، خاصةً من هذه الطبقة" قالت وعينها تنظر في المكان قبل أن تحولها نحوي وتنظر للثوب قائلة: "اختيارٌ جريء بالمناسبة". نظرت للثوب وابتسمت شاكرةً وقلت: "هذا لأنني لا أنتمي لهذه الطبقة".

رفعت حاجبًا نحوي قالت: "لستِ من الحدود بالتأكيد، وإلا كان من المعجزات وجودك بيننا في هذا الحفل، ساحرة! لا بد من أنكِ من الساحرات".

عيني تلقائيًا اتجهت نحو ثونار التي كانت تشعر بالملل بينما شابٌ ما يحاول استمالتها، هل هذا جوزفين الذي يحاول رمي السكين على الشاب؟ لا بأس، أوكتيفيان سيعتني بالأمر!

كان من الصعب الإنكار؛ لذلك قلت في شيءٍ من التردد: "حسنًا، شيء كهذا". لم تكن مهتمةً كثيرًا لتعرف من أين جئت؛ فلم تبدِ اهتمامها بالإجابة أكثر من اهتمامها بدفاعي عن السكان.

أومأت وعرفت عن نفسها قائلة: "أدعى بروزيا ماندولين هاتينال، اختصري الأمر فقط بمناداتي ماندولين، لا بأس في ذلك، أنا أحد أفراد العائلة الحاكمة، بشكلٍ أدق، أنا وجلالته أقرباء، والدي يكون شقيق جلالتها الحاكمة الأم والدة جلالته، أي أنه خاله بشكلٍ أبسط" لم تكن تتفاخر بالأمر؛ فقد بدت غير مهتمةٍ بشأن كونها أحد أفراد العائلة الحاكمة.

"جلنار روسيل" مجددًا، كنت أختصر التعريف عن نفسي ولم تبدُ ماندولين تمانع هذا. عيني اتجهت نحو يوجين الذي كان يتلاعب بنهاية ثوب زوجة جلين وأردت رمي شيءٍ ما نحوه ليتوقف قبل أن يفضح نفسه، لكني تجاهلت الأمر، لن يفكر أحد أن شبحًا ما موجود حولهم!

"القوي يأكل الضعيف، أليس بقانونٍ سخيف؟ لطالما سيكون القوي موجودًا، وسيظل الضعيف موجودًا، ووجود كلاهما مهمٌ لاتزان الحياة، ولكن هذا لا يعني أن للقوي حرية فعل ما يريد، هناك قوانين وأسس لهذه الحياة، وإلا لتدمرنا جميعًا" قالت قبل أن تتنهد وتنظر للجمع من حولها.

"لا أحد من هؤلاء الحمقى يبالي إلا القليل، إن ظل الأمر بهذه الطريقة فستكون نهايتنا سيئة. سكان الحدود ليسوا مجرد أدوات، إنهم مثلنا، يملكون كبريائهم وصبرهم الذي ينفد مع الوقت، وسيثورون يومًا ما ولهم كامل الحق"

التفتت تقابل نظراتي وقد حملت عينها بعض الغضب المكتوم وأردفت: "إنهم لا يطالبون إلا بحقوقهم البسيطة للبقاء أحياء، الاعتناء بصحتهم، وأجر يمكّنهم من الحياة بشكلٍ سوي، لا يريدون قصورًا أو أموالًا طائلة، حقوق مساوية في التعليم لأطفالهم، فرص متشابهة. هل من الصعب أن تعيش محافظًا على كرامتك؟ أن ترفض أن يدهسك أحدهم فقط لأنه يملك القوة والمال؟".

أنا مندهشة! هذه المرأة تعرف ما تقوله جيدًا، إنها ما نطلق عليه في وطني لقب ناشطةٍ حقوقية.

زفرت بتعبٍ قائلة: "انظري لهم، وجود أشخاصٍ من أمثالي وأمثال سيدة عائلة كليسثينيس يهدد بزوال حكم العائلات النبيلة، لقد توغلوا حتى أصبحت أرض المملكة مقسمةً بالنصف بين العائلة الحاكمة وبينهم، إن طالبنا بحقوق سكان الحدود فهذا يعني أن نسبة الخمسين بالمائة خاصتهم قد تنخفض ولن يتمكنوا من التدخل في القوانين والأحكام الخاصة بالمملكة".

أخذت كأسًا ما من الكؤوس التي تدور حولنا بشكلٍ سحري كل خمسة عشر دقيقة تقريبًا وحدها ورطبت شفتيها وأشارت نحو الأميرة قائلة: "إنهم قلقون من توليها المسؤولية، الملك كان يحاول قدر الإمكان موازنة الأمور، لكنه كان تقليديًا، يحاول تجنب الخسائر قدر الإمكان، ويحاول تجنب سخط النبلاء حتى لا تتحول مملكته لحربٍ أهلية، ولكن ابنته... إنها مختلفة، قويةٌ أكثر من أبيها إن أردتِ رأيي، تلك الفتاة سينفد صبرها يومًا ما وسترمي بمصلحة النبلاء عرض الحائط لتعمل بإرادتها الخاصة؛ لذلك...".

صمتت فجأة وبدت وكأنها تفوهت بأكثر من اللازم، لكني كنت قد قرأت الأمر في الأجواء سلفًا؛ لذلك أكملت أنا بدلًا عنها: "لذلك قد يحاولون اغتيالها". بدت متفاجئةً لوهلة، ولكنها ابتسمت وهمست: "ذكية".

 لا يحتاج الأمر لذكاء حتى تفهم أفكار بعض الديكتاتوريين أمثال النبلاء، وسط هذه المعمعة، من السهل قتل الأميرة وتلفيق التهمة للعدو والخروج منها دون أي أذى، ولكن وجودي داخل الصورة أفسد الأمر بالكامل.

فعوضًا عن الانشغال بالتخلص مما يعيق طمعهم بالمزيد أصبحوا منشغلين بعدم خسارة ما يملكون بالفعل.

"لكن لن يكون الأمر سهلًا كما يظنون، الأمر سر، ولكن..." اقتربت نحوي وهمست: "كادت الأميرة يومًا أن تهزم الملك في نزالٍ حقيقي". اتسعت عيني ونظرت نحو ماندولين بدهشةٍ لتومئ مؤكدة: "كما أنها ورثت ذكاء والدتها، قد تبدو فتاةً قد نضجت مؤخرًا، ولا تزال ساذجة، ولكن صدقيني... إنها تخفي أكثر مما تظهر، وهذا هو ما يخيف النبلاء منها".

في الواقع هذا دفعني للشعور بالقليل من الراحة، كنت سأظل في قلقٍ دائمًا حول سلامة الأميرة، ولكن الهالة القوية حولها تؤكد قول ماندولين تمامًا.

"كما أن مؤخرًا هناك أشياء قد اختلفت"

جذبت انتباهي جملتها لأنظر نحوها بتساؤل: "بالتأكيد سمعتِ عما يحدث، الجميع يتناقل أخبارًا عن أن هناك شخصٌ خفي يلعب ضد النبلاء، أعني أنك إن فكرتِ في الأمر بجدية فإن من المستحيل على النبلاء أن يسلموا أراضيهم بهذه السهولة لسكان الحدود، هذه ليس طيبة منهم، لن يحدث هذا إلا رغمًا عن أنوفهم، وليس من عادة الأميرة أخذ قراراتٍ صارمة في حق النبلاء فجأة، هناك شخصٌ ما كان صاحب هذه القرارات في الحقيقة، شخصٌ ما تدخل وفعل هذا ضد إرادة النبلاء".

أردت الابتسام بفخرٍ والإشارة نحو الفرسان قائلة: نحن من فعلناها، ولكن احتفظت بشعور الفخر هذا داخلي في الوقت الراهن.

مجبرةً وجدت نفسي أتثاءب؛ مما دفع ماندولين للضحك ووضعي في موقف محرج "كلتانا تتفق أيضًا على أن هذه الحفلات مضجرة". أومأت متفقةً وقلت: "لا أرى أي منفعةٍ منها في الواقع، ولكن ربما بالفعل هم في حاجةٍ لشيءٍ يجعلهم سعداء في الوقت الراهن". كنت أنظر نحو الشرفة المطلة على حفل سكان الحدود والعامة، كم أردت التواجد هناك الآن.

"لمَ لا تهربين؟" طرفت بدهشةٍ ونظرت نحوها لتهمس: "أعرف مخرجًا سريًا من هنا، سأغطي عن غيابكِ وسأخبر أي شخصٍ يسأل عنكِ أنكِ أُصبتِ بتوعكٍ خفيف، سيكون هذا أقل وطئًا من هروبك من حفلٍ ملكي" غمزت في النهاية لتتسع ابتسامتي بحماس.

"هذه أكثر الأفكار روعة!" منعت نفسي بشدةٍ من الإجفال عندما صاح يوجين فجأةً بجوار أذني، نظرت نحوه بحدةٍ ليقول ببراءة: "ماذا؟".

تقدمت ماندولين نحو أحد الأبواب الصغيرة في القاعة وتبعتها وعيني ثابتةٌ على أوكتيفيان حتى لا يرانا، سيصاب بجلطةٍ قلبية إن لاحظ اختفائي.

خرجنا من الباب الجانبي إلى رواقٍ طويل ينيره ضوء القمر، تبعتها وأنا أنظر حولي بفضولٍ حتى وصلنا أمام جدارٍ عادي، طرقته ماندولين مرتين وانتظرت لدقيقةٍ قبل أن يتحرك من مكانه وتظهر من خلفه فتاةٌ شابة تبدو في الثامنة عشر تقريبًا ترتدي زيًا موحدًا للخادمات.

"جلنار، هذه رفيقتي الخاصة جويا. جويا، هذه الآنسة جلنار" أومأت الفتاة باحترامٍ، ولكنها ظلت تسترق نظراتٍ فضولية نحوي طيلة الوقت.

صفقت بيدها لتظهر شعلة نيرانٍ صغيرة تضيء المكان، تتحكم بالنيران، هذا جميل.

نظرتي نحو النيران بين كف يدها أعطاها شعورًا بالثقة لترفع رأسها متفاخرةً بقوتها لأبتسم بصمت، لطيفة حقًا.

نهاية المكان كان جدارًا آخر، طرقت عليه الفتاة الصغيرة ليتحرك وتظهر من خلفه حديقة القصر الخلفية الواسعة.

"أظن أنكِ قادرة على الاهتمام بنفسك من هنا" أومأت لها وشكرتها بحفاوةٍ لتبتسم قائلة: "استمتعي بوقتك، أشعر أننا سنلتقي مجددًا في وقتٍ قصير". ابتسمت بثقةٍ قائلة: "أتمنى هذا".

ابتعدت عنهما وهرولت قبل أن أصفر بيدي، وفي خلال دقائق كان كارولوس يحلق حول القصر ويقترب من الأرضية حتى أتمكن من الصعود فوق ظهره.

صرخةٌ صدرت من الفتاة المرافقة لماندولين دفعتني للنظر نحوهما بعد أن استقررت على ظهر كارولوس، ونظرات ماندولين المصدومة أثارت ضحكي.

لوحت لهما قبل أن أربت على كارولوس وأشير لمصدر الدخان الضخمة قائلة: "إلى هناك، كارولوس". أصدر صرخةً قوية قبل أن يحلق مبتعدًا عن القصر، أظن أن أوكتيفيان سيكتشف أمر اختفائي أسرع مما توقعت.

الهواء الذي يضرب وجهي كان مريحًا، والتخلص من الأحاديث الجانبية للمدعوين في القاعة أثار سعادتي. كان كارولوس ويوجين يتسابقان بأكثر الطرق خطورةً في التحليق، ولكن ارتفاع كارولوس وهبوطه القوي والتفاته الحاد لم يعد يخيفني، أصبحت أستمتع به مع الوقت أكثر.

من قبل لم أتمكن من رؤية تنانين أخرى في السماء، ولكن أتذكر أن هارليك أخبرني سابقًا أنه يتم تربية بعض الأنواع الأليفة منهم في أرض الوسطاء والكثير منهم يعيش بعيدًا عن الأماكن السكنية.

"يبدو هذا مسليًا!" يوجين صاح وهو يحلق نحو الأسفل؛ مما دفعني لإمالة جسدي للأسفل والنظر للأرض التي اجتمعوا حولها، كنا نحلق فوق نيران ضخمة، وكان الجميع يبدو كالنمل من هنا، ولكنهم كثرٌ حقًا.

كانت هناك أكشاك صغيرة أنوارها واضحة، بينما هناك أشياء صغيرة مضيئة تتحرك باستمرارٍ لم أستطع تبين ما تكون من هذا الارتفاع.

"اهبط بعيدًا عنهم قليلًا يا صاح" صحت وأنا أوجه كارولوس ليحلق مبتعدًا عنهم ويهبط بين الأشجار الكثيفة الموجودة على مقربةٍ منهم.

ربت عليه ما إن قفزت من فوقه. "ألا بأس إن بقيت هنا؟" انبطح أرضًا وتدحرج براحةٍ فوق العشب الرطب، لا يمانع إذًا! وضعت يدي فوق فمي وهمست: "لا تصدر ضجة".

التفت نحو الضجيج وصوت الموسيقى الحيوي المصاحب لصوت التصفيق المتوافق مع العزف، أخذت نفسًا وابتسمت بحماسٍ وانطلقت نحو حفل سكان الحدود.

ما استقبلني في الطريق نحو التجمع الضخم حول النيران كانت الأكشاك الصغيرة، كل منها مختصٌ ببيع شيءٍ مختلف عن الآخر من الألعاب والأطعمة والثياب.

شخصٌ ما تجاوز جسدي ممسكًا بقطعةٍ ضخمة من الحديد المتشابك، ووقف في مكانٍ فارغ بين كشكين كانت فيه لوحةٌ إلكترونية تحلق في المكان عليها اسم ما.

أغلق اللوحة الإلكترونية ووضع ما في يده على الأرضية وسحب ذراعًا معلقة بتلك القطعة الغريبة لتتحرك بسرعة وتبدأ في التمدد والتوسع، أعمدتها المتشابكة بدأت تتغير لتتشكل في خلال دقيقةٍ كأحد الأكشاك في المكان!

هذا حقًا مذهل!

التفت عندما سحب أحدهم ثوبي من الخلف لتقابلني فتاةٌ صغيرة كانت تمسك بحلوى في يدها وفي اليد أخرى عصى تدور حول أطرافها كراتٌ مضيئة، أوه! هذه هي الإضاءة الغريبة التي لم أستطع اكتشاف ما هي من الأعلى.

كانت تدوس على عباءة ثوبي لترفع قدمها بسرعةٍ وقد تركت أثرًا من الطين عليها، رفعت عينها الواسعة نحوي وقد امتلأت بالدموع، وبصوتٍ مرتجف قالت: "آسفة".

لقد داست فوق ثوبي فقط، لم تقم بقتلي، لمَ هذا الخوف؟

انحنيت نحوها وربت على رأسها قائلة: "لا بأس، انظري! إنها مجرد عباءة". بدأ فمها يتقوس ويدها ترتجف وقالت: "أنا آسفة، أرجوكِ ألا تجعلِي حرسكِ يقتلون أبي" حرسي؟

تبًا، إنها تظنني أحد النبلاء بسبب الثوب.

ابتسمت باتساعٍ وقلت: "سأريكِ شيئًا مثيرًا للاهتمام". جمعت قبضتي ونفثت فيها وعندما فتحتها نيرانٌ باردة كانت تطفو فوق أصابعي "هل تريدين إمساكها؟". حركت رأسها بلا وقالت: "لا أستطيع التحكم بالعناصر، ستحترق يدي".

ابتسمت وقلت: "إنها نيران خاصة، حتى الأشخاص الذين لا يتحكمون بالعناصر يمكنهم إمساكها، ثقي بي". نظرت بترددٍ للشعلة الصغيرة التي تتحرك حول أصابعي قبل أن تمد يدها ببطءٍ وتغمض عينها بخوف.

وضعت الشعلة فوق يدها الصغيرة المرتجفة وقلت: "انظري، أنتِ تحملينها". فتحت عينها ببطءٍ ونظرت ليدها لثوانٍ قبل أن تتسع بصدمةٍ وتصرخ مذهولة.

بدأت تحرك الشعلة حول يدها ليتحول عبوسها لضحكةٍ متحمسة بينما تعبث بالشعلة "هذا سرٌ بيننا، اتفقنا؟". أومأت وهي تلعب بالشعلة التي ستنطفئ بعد وهلة.

عندما نجحت في منعها من البكاء نهضت في نية الذهاب، لكنها أوقفتني قائلة: "لا أظن أن جميع النبلاء سيئين كما يقول أبي، أنتِ لستِ سيئةً، سيدتي".

تنهدت وانحنيت على ركبتي أمامها قائلة: "أعرف نبيلًا ليس سيئًا على الإطلاق، إنه يفعل ما بوسعه حتى يحمي هذه المملكة، وأنا متأكدةٌ من أنه مستعدٌ للتضحية بنفسه من أجلك؛ لذا أجل، ليس جميعهم سيئين".

اتسعت ابتسامتها وأومأت بحماسٍ لأبعثر شعرها وأنهض متجهةً لأقرب متجر يمكنني أن أبتاع منه ثوبًأ أبسط من هذا.

من حسن حظي وجدت واحدًا وكان يبيعها بثمنٍ رخيص كون قماشها خفيف وليس ذا جودةٍ عالية.

واحدٌ ذو لونٍ أزرق ممزوج بالأبيض وحزام من القماش حول الخصر جذب انتباهي. "أيمكنني تجربة هذا؟" قلت للبائع ليناوله لي، ولكنه لم يمنع نظرة الفضول والحذر نحوي، علي حقًا تبديل هذا الثوب.

نظرت للمكان ولم أجد حُجرات تغيير، ويبدو أنه فهم ما أبحث عنه ليشير نحو مكانٍ ما قائلًا: "هناك". المكان الذي أشار إليه لم يكن سوى بقعةٍ على الأرض عليها حلقة معدنية ضخمة.

لم أرد أن أبدو غبية؛ لذلك وقفت داخل الحلقة، وعندما لم يحدث شيء كدت أسأل البائع، ولكني صرخت بتفاجؤ عندما ارتفعت الحلقة مكونةً جدارًل حولي من المعدن.

لقد أخافني هذا، لكنه مبتكرٌ في الواقع!

غيرت الثوب غير المريح بالآخر، كان عاديًا ينساب فوق جسدي براحةٍ والحزام القماشي كان فاصلًا بين الصدر والخصر.

عندما انتهيت كان أمامي لوحٌ كتب فوقه (اضغط) لذلك ضغطت عليه لتتحرك الجدران وتعود لقرصٍ معدني مثبت فوق الأرض.

البائع نظر نحوي ومد يده قائلًا: "خمسةٌ وثلاثون كورينت". أوه، مال! صحيح، لقد نسيت هذا الأمر تمامًا.

نظرت للبائع بترددٍ وقد بدا غير صبور، عيني اتجهت نحو الثوب بين يدي وابتسمت قائلة: "أيمكننا المقايضة؟". بدا متعجبًا في البداية، ولكن عندما ناولته الثوب ونظر لخامته بدا مذهولًا وأكثر حماسًا ولم يعترض على الإطلاق.

مونيكا ستقتلني إن عرفت بهذا…

لكن الآن لن يرتعب الأطفال مني.

نظرت بحماسٍ نحو الطريق الممتلئ بالأكشاك والبائعون يروجون لبضائعهم بحماس، لكن ما جذب انتباهي أكثر من كل هذا كانت الروائح الشهية.

بحماسٍ طفولي تحركت نحو أحد الاكشاك الذي يبدو عليه ازدحامٌ شديد، والرائحة كان من الصعب مقاومتها، وقفت بانتظارٍ في الصف حتى أرى ما الذي يقومون ببيعه.

عيني كادت تدمع لجمال الرائحة، كانت خلطةً مقرمشة يتم وضعها داخل الزيت على أعواد خشبية لتخرج لامعةً وشهية على هيئة حلقات، لم آكل شيء في الحفل الملكي، والآن أشعر برغبةٍ في تناول كل شيء هنا.

عندما حان دوري ناولني البائع واحدةٍ ساخنة وقال: "ثمانية كورينتات". نظرت للعود بين يدي وتذكرت ثانيةً أنني لم أحضر أي مالٍ معي، تبًا.

بدا واضحًا جدًا أني لا أملك المال، وذلك بسبب الابتسامة الواسعة الحمقاء التي رسمتها على وجهي، يا لي من غبية!

تنهد البائع وكتف ذراعيه ليأتي صوتٌ من خلفي لشخصٍ ينتظر دوره: "لا بأس، سأدفع عنها". كان رجلًا يحمل صبيًا صغيرًا وبدا حماسه مشابهٌ لحماسي وهو يتفحص الأكشاك بعينه بقلة صبر.

كنت ممتنةً كثيرًا حتى كدت أقفز عليه "أشكرك حقًا، لقد نسيت أموالي في المنزل". اتسعت ابتسامته قائلًا: "يحق للجميع الفرح اليوم؛ لذا لا بأس". أكاد أبكي حقًا.

"حسنًا حسنًا، تجعلني أبدو كالبائع الشرير هنا، يمكنكِ أخذها مجانًا اليوم فقط، وأنت يا سيدي، خذ حصةً لك ولصغيرك مجانًا أيضًا" تنهد البائع في النهاية وابتسم وهو يعطي للرجل عودان من الطعام الذي لا أعرف حتى ما هو.

شكره الرجل وبالغت أنا في شكر البائع الذي شعر بالبطولة فجأة وابتسم بفخر.

أحب هذا المكان كثيرًا.

القضمة الأولى من هذا الشيء لم تكن كافية، وقبل أن أعرف كنت قد أنهيت العود بالكامل وكدت آكل العود أيضًا، إنه أشبه بالدجاج المقرمش الممزوج ببهارٍ وشيءٍ آخر لم أتمكن من معرفته.

لو كان يوجين هنا لأغظته، الأحمق هبط قبلي في مكانٍ ما، أراهن أنه يرقص حول النيران متظاهرًا أنه أحد الهنود الحمر.

المكان مزدحم، والضحكات والأحاديث بين الأفراد والعائلات كانت تشعرني بالدفء، رائحة الشواء كانت تذكرني بالأيام التي اعتدت قضائها مع جدي في منزل العطلات الخاص به.

الطريق كان ممهدًا بالأحجار الصغيرة وعلى الجانبين وضع الباعة أكشاكهم لإغراء الزوار، تستقبلك في النهاية لوحةٌ إلكترونية ضخمة تحلق في السماء عليها عبارات الاحتفال، وفي النهاية في ساحةٍ ضخمة الجميع يجلس فوق الطاولات والمقاعد الموزعة هنا وهناك، البعض يجلس فوق الأرضية والبعض الآخر فوق جذوع الشجر الضخمة التي وضعت قرب النيران للجلوس عليها.

في المنتصف كانت تشتعل نارٌ ضخمة تضيء المكان بالكامل وحولها مساحةٌ فارغة للرقص، الموسيقى كانت تُعزف على منصةٍ خشبية صغيرة فوقها فرقةٌ موسيقية أتذكرها جيدًا، الفرقة التي اعتدت سماعها في حانة سانت مارينل.

كل شيء كان مسالمًا، ممتعًا ومليئًا بالبهجة والدفء، شيء كنت أحتاجه منذ فترةٍ طويلة لتهدئة ذهني.

في النهاية كنت مخطئة، الجميع في حاجةٍ لاحتفالٍ كهذا في أوقاتٍ كهذه، أعلم أن القادم سيكون أصعب مما مضى؛ لذلك يومٌ كهذا سيكون جيدًا للجميع.

طاولة كانت مليئةً بالعصائر ولحوم الشواء، وفوقها لوحة كتب عليها بخطٍ طويل (مجاني)

 الجميع يمكنه أخذ ما يريد دون أن يدفع، ولم أمانع في تناول بعض اللحم المشوي مع كأسٍ من العصير.

كدت أبصق ما شربته عندما لمحت يوجين يرقص حول النيران بحماقة، انفجرت ضحكًا؛ فقد كنت محقة في النهاية.

أخذت مكانًا فوق أحد الجذوع القريبة من النيران وراقبت يوجين بابتسامة، يستمتع بوقته كثيرًا هنا.

"جلنار!"

قفزت بفزعٍ نحو صاحب الصوت. "واندر!" تبًا، ستقتلني. "ما الذي تفعلينه هنا؟ كان من المفترض أن تـ... هل هربت من الحفل الملكي؟" صاحت في النهاية لأترك طعامي بجواري وأشرح لها: "لم يكن هروبًا بالمعنى الحرفي، كما أن ماندولين ستغطي على الأمر".

عقدت حاجبها وكررت في استغراب: "ماندولين؟". أومأت وقلت: "إنها من العائلة الملكية، كل شيء بخير، لا تقـ...". قاطعني صراخها بصدمة: "رأيتِ السيدة هاتينال؟" أوه، هذا كان لقبها، أومأت. "هل تعرفينها؟" سألتها لتتسع ابتسامتها وتجلس بجواري.

"إنها من أكبر المدافعين عن حقوق سكان الحدود، وكونها من العائلة الملكية ساعدنا كثيرًا، أتعلمين؟ كان جلين منذ وقتٍ يخطط لضم مقاطعة نورث بالكامل لأراضيه لأن قصره فقط يقع على حدود المقاطعة، الكثير من العائلات كانت ستتشرد، فمقاطعة نورث كبيرة، السيدة هاتينال منعت حدوث هذا وبشدة، ما زلت أتذكر في اجتماعٍ رسمي تم بثه على المملكة بالكامل وقوفها في وجه جلين بصرامةٍ قائلة إنها ستحرك  القوات الملكية إن لزِمَ الأمر لمنعه من أخذ نورث"

يمكنني تخيل المشهد بالكامل الآن، ماندولين بنظرتها الصارمة تقف، تضرب بيدها طاولة الاجتماع وتشير بسبابتها في وجه جلين. إذًا انزعاجهم منها لأسباب أكبر من مجرد كونها شخص يدافع عن السكان، بل لأنها تمكنت أيضًا من منع توسع أراضي النبلاء على حساب سكان الحدود.

"لقد بدت شجاعةً جدًا وغير مبالية" تمتمت وأنا أتذكر وقوفها في وجه ألفن اليوم. "إنها دائمًا هكذا، لطالما كانت تتصف هاتينال بالقوة، وسيكون من الجيد إن تمكنتِ من ضمها لصفك" أنهت واندر جملتها بضربة خفيفةٍ فوق رأسي قائلة: "ويستحسن أن تتوقفِي عن تجنب الدعوات الملكية والهرب منها".

زفرت بضيقٍ وقلت بغيظ: "المكان هنا أكثر متعة، كما… لمَ توبخينني وحدي؟ أتريوس أيضًا تجنب المجيء بينما أنا قد ذهبت في المقام الأول". عقدت ذراعيها وبعدم رضا ردت: "إنه متوقع من أتريوس وإن أردتِ الحقيقة؛ أنا أعلم أنه لم يكن ليذهب، ربما أنتِ قادرةٌ على التحكم بانفعالاتك، ولكن أتريوس لا يهتم ولا يحاول حتى، لن يحتاج لينفعل، بل هو من سيدفعهم للانفعال".

إنها محقة، هذا ما كان أتريوس سيفعله وليس من الصعب توقع الأمر كثيرًا، في النهاية لا أظن أن أحدًا سيعلق على عدم مجيء أتريوس، فهذا يرضي الطرفين، كما أنه ليس مرحبًا به بين النبلاء، مثلي تمامًا.

"إنه لا يحب الذهاب إلى تلك الأماكن، هو لا ينتمي إلى هناك" نظرت لواندر التي ظلت عينها متعلقة بالنيران الضخمة، كان من الواضح أن بعض الذكريات تمر أمام عينها، ولم تكن جيدة جدًا؛ فتعبيرها يدل على هذا.

"أتريوس واحد منّا، من هذه الطبقة التي لا يهتم لها أحدٌ سوى قلة، إنهم يرون أتريوس كلطخةٍ تلطخ أرض القصر الملكي، الأمر متساوٍ من الطرفين، أتريوس يرى أن ذهابه إلى هناك سيفقده انتماءه إلى هنا، إنه يجبر نفسه على الذهاب، لكن لم يرد أن يجبر نفسه اليوم، حتى هو يحق له الراحة يومًا من التظاهر"

كان الأمر يزعجني كثيرًا، أردت أن أجعل الآخرين يرون أتريوس كما أراه أنا، إنه ينبذ نفسه وهم ينبذونه بدورهم، أتريوس أصعب أحجيةٍ قد حاولت حلها في حياتي.

نظرت لواندر وفكرة أن بإمكاني معرفة أشياءٍ لا أعرفها عن أتريوس كانت تثيرني كثيرًا؛ لذلك سألتها: "تبدين على علاقةٍ وطيدة بأتريوس، هل أنتما أقارب؟".

تفاجأت من السؤال، ولكنها ابتسمت ابتسامةً دافئة وقالت: "أتريوس طفلي الذي لم أحظَ به يومًا". لحظة ماذا؟ واندر لا تملك أطفالًا؟ حسنا، لمَ أنا متفاجئة؟ هذا شيء متوقعٌ كونها تقضي وقتها بالكامل في منزلنا، ولكن… هل تعرف أتريوس منذ أن كان صبيًا؟

ضحكت عندما وجدت أن مائة علامة استفهام ظهرت على وجهي، ولكنها لم تمتنع عن الشرح قائلة: "أعرف أتريوس منذ وقتٍ طويل، ربما لم يقضِ معظم طفولته حولي، ولست بالطبع والدته الحقيقة، لكن لطالما كان فتاي الصغير، لا أعلم ما السبب، لكن وكأن الإله اختارني للعناية به، مهما ابتعدت لا يمكنني نسيان أمره ولا يمكنني التوقف عن القلق عليه، عندما تنصّب كفارسٍ أصابني الهلع… جميع الفرسان أشخاصٌ مهمون، وكان هناك من قبل فارسٌ للإلترانيوس؛ لذلك وجود أتريوس كان مشكلةً كبيرة.

كنت أعلم أنه قادرٌ عن الدفاع عن نفسه مهما حدث، لكني لم أتمكن من تركه يذهب ويختفي، لقد ظللت ليومين أمام القصر الملكي لأني أردت التحدث مع الأميرة. إن كان أتريوس في مكانٍ ما فلن أتركه وحده، وهكذا عندما تبين أنني أعند من حراس القصر الملكي سمحوا بدخولي وتحدثت مع الأميرة عن رغبتي في العناية بالفرسان والبقاء معهم كمدبرة منزل، كان كل شيءٍ لأجل أتريوس في البداية، ولكن مع الوقت كان منزل الفرسان منزلًا ثانيًا لي، جميع من فيه أردت الاعتناء بهم جيدًا ورفع معنوياتهم، وظننت أنها فرصة منحت لأتريوس، بإمكانه أخيرًا أن يتعاون من أفرادٍ مختلفين، سيكون مضطرًا لمشاركة أشخاصٍ ما حياتهم، ولكن…".

تنهدت ونظرت نحو كفيها باستياءٍ مردفة: "لم يحدث هذا، أتريوس ظل أتريوس. تجنب الجميع ولم يترك فارسًا إلا وقد دفعه للخوف منه أو كرهه، الأمر ذاته الذي يفعله مع الجميع، ظننت أن الوقت سيتعامل معه ولكن هذا لم يحدث، لم يحب فكرة المشاركة أو التعاون أبدًا، حتى...".

ابتسمت ونظرت نحوي بامتنانٍ قائلة: "حتى جئتِ أنتِ، جلنار. لم أكن أفكر أن الأمور ستسير بهذه الطريقة أبدًا، في البداية رأيت ما يحدث دائمًا يتكرر معكِ، حاول إبعادك عنه كما فعل مع الجميع ونجح في البداية، لكنه بعد ذلك فشل بشكلٍ ذريع، تلك الفقاعة التي يحيط بها نفسه نجحتِ في الدخول إليها، ولم تكتفِ بهذا، قد بدأتِ بسحبه خارجها بالرغم من مقاومته، ولكني على إيمانٍ بنجاحك، فمن بإمكانه مقاومتكِ؟".

جملتها الممازحة في النهاية دفعت كلتينا للضحك، ولكني كنت أشعر بالدفء! طريقة حديثها وكأني مميزةٌ لدى أتريوس كانت تشعرني بالسعادة وشعرت بأني حمقاء بالكامل في هذه اللحظة.

"أنتِ حقًا لا تشبهين فينسيا في أي شيء" تجمدت في هذه الثانية ونظرت لواندر، كانت بدورها تحدق بي بابتسامةٍ صغيرة ويبدو أنها لم تكن مدركةً لما تمتمت به للتو.

عندما لاحظت تعبيري أجفلت ووبخت نفسها بصوتٍ منخفض، كنت متأكدةً من سماع هذا الاسم من قبل، بل أني على يقينٍ من أني سمعته، لكني لا أتذكر أين أو متى!

"من هي فينسيا؟" لم أستطع مقاومة السؤال، لمَ ذكرت اسم امرأةٍ فجأة بينما نتحدث عن أتريوس؟ بالتأكيد الأمر له علاقةٌ بهذا الأحمق وهذا ما زاد الطين بلة، وكأني في حاجةٍ لسبب آخر ليقتلني الفضول.

واندر استغرقت وقتًا وبدت مترددةً قبل أن ترسم ابتسامةً مصطنعة وتقول: "إنها فتاةٌ كنت أعرفها سابقًا، اعتادت على قضاء الوقت معي".

كذبة.

واندر كانت أكثر شخصٍ من الممكن قراءة جسده بسهولة، وهذه كانت كذبةً بالكامل، لكن تقطيب واندر لحاجبها والانزعاج الذي حاولت إخفاءه بابتسامةٍ مزيفة جعلني أدرك أن من الواجب كبح فضولي وعدم السؤال أكثر من هذا.

قلت في محاولةٍ لتلطيف الأجواء بيننا: "هل كانت رقصة حلقة النيران جيدة؟". تحولت تعابيرها لأخرى متحمسةٍ ونسيت الأمر في ثوانٍ وقالت: "أوه، لقد ذكرتني بها! لا، لم تحدث بعد، تبقى القليل حتى تبدأ، أنا حقًا في غاية الحماس لأراها، من الجيد أنكِ هنا، بإمكانكِ رؤيتها أيضًا".

أومأت مبتسمةً ونظرت للثنائيات التي كانت ترقص بشكلٍ عشوائي على أنغام الفرقة الموسيقية، الموسيقى توقفت عندما انتهى أداء الفرقة وكان عليهم عزف أغنيةٍ أخرى.

قفزت واندر وسحبتني قائلة: "لمَ لا تغنين شيئًا اليوم؟ هذا سيسعد الجميع كثيرًا". اتسعت عيني وحركت رأسي رافضةً الفكرة "أتمزحين؟ الغناء أمام هذا الجمع! القتال في الحرب أسهل بالنسبة لي".

لم يبدُ وكأنها تهتم، وفي دقيقةٍ كان قد تم جري نحو المنصة، وما أن رأتني الفرقة الغنائية حتى صاح أفرادها مرحبين بنا ولم ينتظروا حتى من واندر أن تطلب منهم جعلي أغني؛ فقد دفعوا نحوي الآلة الشبيهة بالجيتار ولم يترك أحدٌ لي فرصةً لقول رأيي حول الأمر حتى!

وجدت نفسي مجبرةً على غناء شيء ما، وبما أن الأجواء تعتمد على الموسيقى فتوقفها لفترةٍ لفت أنظار الجميع نحو المنصة الصغيرة.

تبًا، هذا محرج.

كان علي البحث داخل رأسي عن أغنيةٍ سريعة تناسب الأجواء، ولكن لم أجد واحدة. "ارتجلي!" صوت يوجين وهو يصيح ويقفز بين الجموع دفعني للابتسام، يمكنني الارتجال، لا بأس بهذا.

الفرقة الموسيقية كانت مستعدةً لتتماشى مع عزفي ما أن أبدأ.

هذه المرة شيءٌ يلطف الأجواء سيكون جميلًا.

أخذت نفسًا لأُهدئ نفسي وبدأت في عزف لحنٍ مبهج وبسيط يمكن الرقص عليه بشكلٍ عشوائي...

"في أحد أيام الصيف الحارة

جلست مستمتعًا بتناول لحم الشواء

أفكر باستمرار؛ كيف يمكنني الحصول على ماري نيل؟

ماري نيل، ماري نيل!

المرأة التي أحب اسمها، ماري نيل

أربعةٌ وخمسون شابًا يحبون ماري نيل

وأنا البائس الذي يريد الحصول عليها"

العزف أصبح أكثر متعةً وبدأ الجميع يضحك ومستمتعًا؛ لذلك تابعت بنغمة سريعة:

"فتاة الصيف الشابة

تحلم بأميرٍ من بين كل كتاب

بينما أحلم أنا أن ننجب ثلاث بناتٍ وستة أولاد.

تحلم بالقصور والخدم والمال

بينما أملك كوخًا وبعض الآمال!"

 الجميع كان يضحك بينما يرقص وهذا أسعدني كثيرًا، العزف عاد لمطلع الأغنية وكانوا قد حفظوها بالفعل، فبدأ الجميع يكرر معي وهم يصفقون بوتيرةٍ متناسبة مع العزف.

"ماري نيل، ماري نيل

المرأة التي أحب اسمها، ماري نيل

أربعةٌ وخمسون شابًا يحبون ماري نيل

وأنا البائس الذي يحلم بماري نيل.."

بدأ الجميع في الغناء معًا وتكرار اللحن حتى تغير العزف لأغني أنا:

"تحت ضوء القمر

عند سفح الجبل

أردت الزواج من ماري نيل

أردت الرقص والغناء من أجل فتاة الصيف الشابة

ضحكنا حتى بزوغ الفجر

ولكن والدها قال: لن تتزوج ابنتي!

ماري نيل، ماري نيل

لن أتوقف حتى تصبح زوجتي هي ماري نيل"

أعدنا تكرار الأغنية مجددًا وكان الجميع يضحك ويلتفت متشابكِي الأذرع، كان هذا ألطف وأجمل شيءٍ في حياتي.

أنهيت الغناء مسببةً صراخ الجميع معًا بسعادةٍ ومثيرةً ضحكهم بسبب كلمات الأغنية، رؤية الجميع بهذه السعادة وتعرف بعضهم علي كان كافيًا لدفعي للأمام والاستمرار حتى أُعيد حقوقهم وأبعد الخطر عنهم.

هؤلاء الأشخاص لا يستحقون أي سوء، إنهم مكتفون بحياتهم، ولكن لا أحد يتركهم وشأنهم!

واندر كانت تنتظرني عند المنصة وبدت معجبةً بالأغنية كثيرًا وظلت تدندنها، ويوجين لم يتوقف عن قول أن ماري نيل خاصته هي الطبيبة الملكية.

"لو أن جميع الفرسان كانوا هنا كان الأمر ليكون أكثر متعة" قلت بينما أنظر نحو أبراج القصر المضاءة لتربت واندر على كتفي، ولكنها صاحت بغيظٍ قائلة: "لا أصدق أن الأحمق قد ترك هذا الحفل الممتع وفضل الجلوس وحده هناك".

عقدت حاجبي ونظرت حيث أشارت، كانت أشجارًا كثيفة، بما أننا عند حدود أرض العامة فهي غالبًا ما تكون محاطةً بأشجار وغابات.

"تقصدين أتريوس؟ أهو هنا؟"

أومأت كإجابة وقالت: "أجبرته على المجيء معي، لكنه في النهاية ذهب ليجلس وحده هناك بعيدًا عن الجميع". تنهدت وكانت غاضبة، لكنها فجأة نظرت نحوي وقالت: "لمَ لا تذهبين للحديث معه؟ ربما يستمع لكِ، إنها فكرةٌ جيدة".

صاح يوجين من خلفي: "لا، إنها فكرةٌ سيئة! فكرةٌ سيئة!". وبما أني لم أجب أخذت واندر هذا كأذنٍ لاختيار عوضًا عني ودفعتني بخفةٍ نحو الأشجار ولوحت بيدها قائلة: "حاولي التكلم معه وإن لم ينجح الأمر تجاهليه وعودي، رقصة حلقة النيران ستبدأ في أي وقت، سيكون من السيء أن تفوتك رؤيتها".

"لا تذهبِي! إياكِ، جلنار!" يوجين الذي وقف أمامي مباشرةً تم دفعي لأمر من خلاله نحو الأشجار، ولم أجد مهربًا من نظرات واندر إلا الدخول والبحث عنه.

يوجين لم يتوقف عن التذمر لدقيقةٍ واحدة طيلة توغلي لداخل المكان، زفرت بضجرٍ عندما قال يوجين للمرة المائة: "يمكنكِ الهرب، أو فقط العودة وقولي أنكِ لم تجديه، هذا سهل".

توقفت والتفت نحو يوجين قائلة: "لمَ لا تعود للحفل؟ ما أن ترى أتريوس لن تتوقف عن التذمر". كتف ذراعيه وأومأ قائلًا: "ماذا تنتظرين مني أن أفعل غير هذا؟ الرجل حاول قتلك". بنفاد صبرٍ صحت قائلة: "كان يعرف أن أغدراسيل سيلتقطني".

رفع حاجبًا ونظر نحو وجهي بأعين ضيقة "هل أخبركِ أغدراسيل بهذا؟". زممت شفتي ونظرت بعيدًا عنه، لن أخبره بما حدث اليوم، ليس الآن على الأقل.

"ذلك المتوحش هو من قال هذا؟ وصدقتيه؟ إنه يحاول التبرير…" تجمد فجأة وكأن فكرةً سيئة انفجرت في رأسه قبل أن يصرخ بقوة: "لمَ يحاول التبرير لك؟ ما الذي يحدث؟". اتسعت عيناه قبل أن يوجه سبابته نحوي باتهامٍ ويكرر سؤاله بصوتٍ حاول جعله ضخمًا: "ماذا يحدث بينكما، جلنار؟".

ابتلعت والتفت بسرعة وتابعت السير "لا شيء". شهق بقوةٍ وقال بدرامية: "كنت أعلم، كنت أعلم أن هناك شيءٌ يجري بينكما، لا يمكن أن تسمحي بهذا، جلنار". ماذا سيكون رد فعله إن أخبرته إنني معجبةٌ بأتريوس بالفعل؟

توقفت فجأةً عندما لمحت جسده.

كان نائمًا فوق الأرض العشبية يحدق بالسماء بهدوء، المكان هنا أكثر هدوءً من الحفل، وصوت الموسيقى بالكاد يصل ولكن يمكنك سماعه.

فكرة العودة والكذب كما قال يوجين أصبحت جميلةً فجأة، لكن لا! إن أصبحت ضعيفة ما أن أراه لن أتمكن من فهمه يومًا.

استجمعت شجاعتي وتقدمت نحوه لأقف بجوار رأسه، لم يرفع عينه نحوي، ولكن شبه ابتسامةٍ ارتسمت على شفتيه وهذا أراحني قليلًا، ليس منزعجًا من وجودي.

"لا تمانع الانضمام لك؟" سألت لتتسع ابتسامته ويقول ساخرًا: "منذ متى تنفذين شيئًا أطلبه منكِ؟ حتى وإن قلت لا؛ لن تذهبِي". هذه نقطةٌ صحيحة في الواقع، ولكن اليوم خاصةً إن لم يرد وجودي فلن أفرض نفسي؛ لذلك قلت بلا مبالاة: "هذه المرة، لا بأس، إن أردت البقاء وحدك سأعود أدراجي".

التفت للذهاب وهذا أسعد يوجين أكثر من سعادته عندما تمكن من لمس الأشياء، ولكن أتريوس قال: "لكني لم أمانع!".

ابتسمت وحاولت إخفاءها عندما التفت نحوه وأخذت مكانًا بجواره لأنام فوق الأرض أنظر نحو النجوم، من هنا كان بإمكاني رؤية أفضل مشهدٍ في العالم، قمرا الإلترانيوس قريبان من بعضهما.

لقد كان الأمر مذهلًا ولم أنتبه لذلك من قبل.

"من المفترض بك التواجد في الحفل الملكي عوضًا عن الغناء هنا"

لم أنظر نحوه ولكني أجبت بتهكم: "كان يفترض بك التواجد هناك أيضًا، لكنك لم تفعل!".

"لم أكن لأذهب من البداية"

رفعت كتفي متفقة "وأنا لم أكن لأفعل، لكن لم أكن في وضعٍ يسمح لي بشجارٍ آخر مع أوكتيفيان".

صمت كلانا وتثاءب يوجين بمللٍ وهو يحوم حولنا. "لمَ تجلس هنا بينما يحتفل الجميع هناك؟" سألت الشيء البديهي الذي سيسأله أي شخص، لكني كنت أعرف الإجابة سلفًا.

"لأني لا أريد الاحتفال مع الآخرين"

تنهدت ونظرت نحوه، وقلت بنبرةٍ تشوبها الشفقة: "أيها المسكين، ستكبر وستصبح عجوزًا وتتساقط أسنانك وستبقى وحيدًا تنتظر شخصًا ما ليبقى معك، ولكن ستتذكر أنك أبعدت الجميع عنك".

التفت ونظر نحوي وابتسم قائلًا: "لن يحدث هذا، ستأتين متكئةً على عكاز وستحاولين إزعاجي كما تفعلين عادةً". رفعت حاجبًا ونفيت "أنت تتمنى، سأكون قد تزوجت وأنجبت أطفالًا، وسأملك الكثير من الأحفاد من حولي، وسأنشغل بهم ولن أملك وقتًا لإزعاجك".

تقلصت ابتسامته، ولكنه أومأ متفقًا "أظن أن هذه حقيقة نوعًا ما، لكن..." نظر نحوي بخبثٍ مستغلًا اقترابنا وهمس: "ستظلين مفتونةً بي". اتسعت عيني وحاولت إخفاء احمرار وجهي بالالتفات نحو الجهة الأخرى لأرى يوجين نائمًا على معدته ويضع وجهه فوق يديه.

"وماذا بعد يا عصفورا الحب؟" سخر وهو يحرك قدميه لأغمض عيني وأتنهد بانزعاج، تجاهلت يوجين قدر الإمكان والتفت نحو أتريوس بسرعةٍ والمسافة بين وجهينا تقلصت بشكلٍ مفاجئ وسريع، حاولت تمالك نفسي مبتسمةً بسخرية.

"ألا يبدو الأمر وكأنك من يقاومني هنا؟"

لم أتوقع أنني سأرى ملامح متفاجئةً على وجهه، ولكن عينه اتسعت وحدق بوجهي لثوانٍ قبل أن يحاول ترطيب حلقه ويبتعد للخلف. "لم... يحدث" تلعثم فجأةً وزفر بضيقٍ مما زاد ابتسامتي.

أنا أؤثر عليه بالقدر الذي يؤثر علي به، وهذا جيد جدًا.

"هل تمزحان معي؟" صرخ يوجين وانتفض ليحلق وينظر لوجهي من مسافةٍ قريبة مردفًا: "أين الشجار؟ أين الشتائم ومحاولات القتال المستميتة بينكما؟ لماذا أشعر أن كيوبيد يحلق في الأجواء ويرمي سهام الحب بينكما؟".

نهضت جالسة ونظرت لأتريوس قائلة: "امنحني دقيقة". بدا متعجبًا، ولكنه لم يسأل.

نهضت مبتعدةً عنه وتبعني يوجين الغاضب، وعندما ابتعدت عنه كفايةً حتى لا يسمعني وجهت نظرةً حادة ليوجين وهمست: "ما خطبك؟ تتصرف كطفلٍ صغير، نحن فقط نتمازح، يوجين". أظهر ملامح السخرية وقال: "تتمازحان؟ أرأيتِ الطريقة التي تنظرين بها إليه، جلنار؟ تبدين كطفلةٍ صغيرة متعلقة بشكلٍ مخيف بشيءٍ ما! هذا كله خطأ، أتدركين ما قد يحدث في النهاية؟".

عقدت حاجبي باستغرابٍ وقلت: "ما قد يحدث؟". كان يحاول منع نفسه بصعوبةٍ من قول ما يريد حقًا؛ مما دفعه لركل الأرض بغيظ.

"أتريوس ليس سيئًا" لم أحاول الغضب عليه كنت أحاول توسله ليرى أتريوس بالطريقة التي أراه بها.

"نحن لا نعلم شيئًا عنه"

"بعض الأشخاص لسنا بحاجةٍ لمعرفة أي شيءٍ عنهم، يكفي فقط أن تؤمن بأنهم جيدون"

"ليس هنا، جلنار! ليس هنا، ألا تفهمين؟ سيكسر قلبكِ حتى إن لم يرد ذلك، سيكسره في النهاية، أنتما مختلفان اختلاف الشمس عن القمر"

قاطعته بانفعال: "الأمر ليس بيدي! أنا معجبةٌ به، هذه هي! هل أنت سعيد؟ أنا أتعلق به والأمر بالكامل ليس بيدي، حاولت كراهيته بالفعل ولم يجدِ الأمر نفعًا، حاولت الابتعاد عنه ولم يجدِ الأمر نفعًا. يوجين، أنا لا أريد شخصًا عاديًا ولا علاقةً عادية ولا أهتم، أنا أريد أتريوس".

كنت أتنفس بصعوبةٍ بالرغم من تحكمي بنبرة صوتي، ولكن يوجين لم يتحكم بتعبيره لأنه كان متجمدًا لدقيقةٍ تقريبًا.

زفرت وقلت: "أعتذر! الأمر ليس ذنبك ولا يجدر بي الانفعال في وجهك، لكن... يوجين، إن لم أخبرك أنت بما يخالجني وإن لم تدعم موقفي من سيفعل؟".

تنهد ومسح وجهه قبل أن يخرج صيحةً تذمر عالية: "حسنًا! لنهدأ أولًا، لدينا الكثير للحديث عنه ولكن ليس الآن، لقد اتفقنا أن اليوم للراحة وأنا لا أفعل شيئًا سوى تشويشك، أحتاج التفكير قليلًا، لنتحدث لاحقًا".

أومأت بالرغم من شعوري بالذنب تجاه يوجين، رؤيته بهذا الضيق لا تشعرني بالخير أبدًا، لقد اعتدت على ابتسامته ومزاحه، عندما أراه بعكس هذه الحالة أشعر بالسوء يثقل صدري.

"لا تصنعي هذا الوجه، أيتها الحمقاء! نحن لا ننفصل أو شيءٌ كهذا، هذا مجرد جدالٍ بيننا، ابتسمي قليلًا" نكز وجهي في النهاية لأبتسم نحوه. "أعلم، لمَ سأعبس بسببك على أي حال؟" مازحته ليضحك ويقلد أتريوس: "لأنكِ مفتونةٌ بي".

نظرت له بحدةٍ مصطنعة: "سأقتلك".

"ستقتلين من؟"

صرخت بفزعٍ وشعرت بأن قلبي توقف لثانيةٍ عندما صدر صوت أتريوس من خلفي مباشرةً وهو ينظر حيث يوجين أو الفراغ بالنسبة له.

لم أكن الوحيدة التي أثار أتريوس فزعها؛ فيوجين صرخته تردد صداها في المكان قبل أن يسقط على ركبتيه يلتقط أنفاسه. "أشعر بأني حي مجددًا" قال بصوتٍ لاهث ممسكًا بصدره.

نظرت لأتريوس الذي أسند ذقنه فوق كتفي وما زال يبحث عن أي مخلوقٍ حي كنت أتحدث إليه "هل تتحدثين مع نفسك مجددًا؟". تلعثمت ونفيت بسرعة: "لا.. لا أفعل، أنا لا أتحد..." صمت عندما أدركت أن التفسير الوحيد هو أنني بالفعل أتحدث مع نفسي؛ لذلك قلت بصوتٍ منخفض وأكاد أقتل نفسي من الخجل: "أنا أتحدث مع نفسي".

رفع حاجبيه وكدت أرى كلمة (مجنونة) على طرف لسانه، ولكنه منعها؛ لذلك التفت نحوه متذمرة: "ماذا؟ يحق لي الحديث مع نفسي، إنه كصوت عقلي، صوتٌ مزعج يظهر في الأوقات السيئة، أتملك مشكلةً مع هذا؟".

صمت لمدةٍ وبدا كشخصٍ يحاول إدراك كل شيء بسرعة. "صوت عقلك المزعج ما زال هنا" يوجين تذمر بالقرب من أذني لألتفت نحوه بعصبيةٍ قائلة: "اصمت الآن!".

اتسعت عيني والتفت إلى أتريوس الذي كان بدوره متفاجئًا من المسرحية الهزلية التي تحدث هنا، ولست مضطرة لقول كم استغرق يوجين في الضحك.

"كنت أتحدث مع صوت عقلي" تمتمت وأنا أنظر بعيدًا، أشعر بأني أغرق داخل ملابسي، لمَ تحدث جميع المواقف السيئة معه؟

تفاجأت عندما ارتسمت ابتسامةٌ على وجهه قبل أن تتحول إلى ضحكةٍ حقيقية لم يستطع التحكم بها.

بحلقت به أنا ويوجين بصدمةٍ ليميل يوجين نحوي هامسًا: "هل يستطيع هذا الرجل أن يضحك؟". لم تكن هذه القضية...

القضية كانت: كيف يمكن لضحكةٍ واحدة أن تجعل السعادة تنفجر داخلك؟

عندما تمالك نفسه نظر نحوي وما زالت آثار الضحكة باقيةً كابتسامةٍ على ثغره "أنتِ حقًا أغرب فتاةٍ قابلتها في حياتي".

الموسيقى القادمة من مكان الحفل توقفت قبل أن يعلن أحدهم بصوتٍ عالٍ أن رقصة حلقة النيران ستبدأ الآن.

اتسعت عيني ونظرت نحو مصدر الصوت وصحت مع يوجين: "الرقصة!".

يوجين لم ينتظر وحلق بسرعةٍ ليشاهدها وكدت أركض لألحقه، لكني توقفت والتفت نحو أتريوس قائلة: "ألن تأتي لرؤيتها؟". حرك رأسه للجهتين رافضًا وقال: "سأبقى هنا". وجهت نحوه نظرة (أنت تحلم) ليتذمر قائلًا: "جلنار، حقًا لا نية لي في البقاء بين الآخرين".

ابتسمت وأمسكت بيده لأسحبه خلفي "لست مضطرًا لذلك".

كنت أجره جرًا وكان يتكاسل حتى لا يأتِي، لمَ عليه تجنب كل شيءٍ سعيد بهذه الطريقة؟

اقتربنا من مكان الحفل ولم تُعزف الموسيقى بعد، وقفت على مسافةٍ بعيدةٍ عنهم أشاهد من بعيد وأتريوس استند على الشجرة بجواري.

كانت لحظةً جميلة حقًا، كل فتاةٍ تجلس منتظرةً شابًا يدعوها للرقص، الفتيات كن يصرخن بحماسٍ وسعادة ما أن يعرض شخصٌ ما على صديقتهن الرقص، والفتيان يتمازحون عندما يتم رفض أحدهم.

الجميع كان متوترًا، متحمسًا، ولكن كل شخصٍ استطاع دعوة الشخص الذي يحب، اليوم يتصف بالشجاعة وهذا أكيد.

اتسعت ابتسامتي وسحبت بسرعةٍ قميص أتريوس أشير نحو نقطة ما. "انظر هناك!" أكاد أصرخ من السعادة.

كان السيد جولدامون يعرض رقصةً على واندر، ويمكن القول أنه بإمكاني الموت بسعادةٍ الآن، صحت بحماس:

"كنت أعرف أن هناك شيءٌ بينهما!"

"لماذا هناك شيءً بينهما؟"

التفت لأتريوس الذي سأل بتهكم لأنكز كتفه قائلةً بانزعاج: "لا تفسد الليلة، إنهما لطيفان معًا، ألا ترى ابتسامة واندر وتوترهما؟ إلهي، إنهما لطيفان!".

"وأرى أيضًا كم أن واندر امرأةٌ حساسة ومن الممكن استغلالها"

نظرت نحوه بغضبٍ وقلت بدفاع: "السيد جولدامون شخصٌ شريف ونزيه ولن يحاول استغلال واندر أبدًا، كما أن واندر بقدر لطفها فإنها امرأةٌ قوية لن تترك شخصًا يستغلها".

لم يبدُ راضيًا وهو ينظر نحوهما "هذا لا يبرر الأمر، ماذا إن كان يحاول إمضاء وقته؟ سأقطع رقبته إن حاول المساس بواندر". دحرجت عيني ودافعت مجددًا "لن يفعل، إنه معجبٌ بها ويمكنني القول إنه يحبها، ألا تقرأ الأجواء بينهما؟ إن حاولت إفساد ليلتها سأفسد وجهك".

رفع حاجبًا واقترب مني قائلًا: "لمَ لا تجربي؟". حاولت التماسك وعدم إظهار توتري ودفعت صدره بعيدًا متذمرة: "توقف عن إغاظتي كلما واتتك الفرصة".

الموسيقى التي بدأت دفعتني للتصفيق والقفز بحماسٍ وأنا أرى انتظام الجميع في حلقةٍ ضخمةٍ حول النيران، كل رجل يمسك بفتاته ينسجمان معًا بشكلٍ يثير الحماس.

كانت حركاتهم متقنةً وسلسة ومتناغمة، يتحركون ببطءٍ حول النيران ويلتفون حولها، تزامنهم كان مذهلًا كأن كل شخصٍ حفظ الرقصة من قبل.

قلةٌ فقط ظلوا جالسين يراقبون من بعيد، كان يمكنني من هنا قراءة تعبير بعضهم، فمنهم من كان مبتسمًا ومستمتعًا بالمراقبة، ومنهم من بدا حقًا حزين بشكلٍ سيء.

أردت مواساة هؤلاء الذين لم تتم دعوتهم، ولكن من الأفضل أحيانًا ترك الأمور على حالها.

النظر إلى تعبير الفتيات اللاتي يرقصن كان يجلب مشاعر مختلطة في الواقع، كن متردداتٍ أو سعيدات، وبعضهن كن غارقاتٍ في الحب.

لأكون صريحة؛ أنا لم أرقص يومًا مع فتى!

حفلة التخرج من المرحلة الثانوية لم يدعني أحدٌ لها، وفي الحقيقة كان الجميع يعلم أني سأتجنب الذهاب لها كما كنت أفعل بجميع حفلات المدرسة.

علي أن أكتب هذا في قائمة أمنياتي عندما أعود للأرض، الرقص مع رجلٍ يومًا ما.

"تبدين شاردة"

التفت نحو أتريوس، ولكن ما لبث حتى أمسك بيدي اليسرى ليضعها فوق صدره وذراعه التفت حول خصري بينما وضع راحة يدي اليمنى بيده.

"إن أردتِ الرقص فقط اطلبي"

لم أستطع الرد في الوقت ذاته، لقد اختفت جميع الكلمات في لحظةٍ ولم أستطع التفكير في شيءٍ لثوانٍ وأنا أنظر لوجهه عن قربٍ والمسافة بيننا شبه منعدمة.

كانت أنفاسي قد توقفت في هذه اللحظة، وكأن الشعور بكل شيءٍ آخر توقف في هذه الثواني قبل أن ينفجر فجأة وأجفل عندما أدركت أنني بين ذراعيه نتمايل ببطءٍ على أنغام الموسيقى الهادئة.

كان يتجنب النظر نحوي، ولكن ذراعه كانت متمسكةً بي بإحكام. "لست مجبرًا على فعل هذا، أتريوس" بالكاد خرج صوتي وأنا أشعر بأنفاسي تُسحب ببطء خارجي.

تمتم قائلًا: "أعلم". فكرة أنه يفعل هذا فقط من أجلي لم تعجبني "أتريوس، يمـ…" قاطعني عندما نظر لعيني وقال بصوتٍ واضح: "أنا لا أفعل شيئًا لا أريده".

حدقت به ولم أشعر بالابتسامة على وجهي، كان الأمر محرجًا بقدرما كان دافئًا؛ لذلك أشحت بوجهي والسعادة تكاد تفتك بتعبيري.

دنى مني وأنفاسه لامست أذني عندما همس: "لم أُراقص إحداهن من قبل؛ لذلك لا تتذمري". فقط لأنني عرفت أن رقصته الأولى كانت معي جعلت مني أكثر سعادة، أكثر انتماء.

كنت أحاول تجنب أي اتصالٍ بصري بيننا بالرغم من محاولته النظر لوجهي؛ لذلك أسندت رأسي فوق صدره وأجزم أنه تحول للقرمزي بالكامل.

"نحن في القارب ذاته، لم يراقصني أحدهم من قبل"

ابتعد قليلًا ورفع يدي لأدور حول نفسي بخفةٍ ويسحبني نحوه مجددًا، وهذه المرة تمكن من النظر نحوي مبتسمًا "إي أنني أول شخصٍ يدعوكِ للرقص؟". أومأت قبل أن أنظر للمسافة بيننا وأمزح قائلة:

"ماذا عن قاعدة الخمس خطوات؟"

ضحكةٌ قصيرة أطلقها قبل أن يقول: "لقد تكرمتِ وكسرتها ما إن وضعتها؛ لذلك أظنها باطلة". ابتسمت ولم أقل شيئًا بعدها، فقط اكتفيت بالنظر لعينه كما فعل.

الموسيقى كانت هادئة والإضاءة خافتة، كانت الأصوات جميعها في سكوتٍ تترك المساحة للصوت العذب الذي كان يغني بروحه قبل صوته.

كان أتريوس شخصًا مختلفًا، شخصًا أقل قسوة وسخرية، كان شخصًا بلا دفاعاتٍ أو أقنعة أو ألوان، كان بلا شخصياتٍ أو جدران…

كان فقط أتريوس.

الرجل الدافئ الذي يخفي الكثير، الرجل الذي اندثرت نظرته التي تلامس روحي خلف جدرانٍ من السواد والظلام.

كان رجلًا طبيعيًا خاليًا من الأحقاد ومن رغبة الانتقام التي دائمًا ما تشع في عينيه.

كان فقط أتريوس الذي أتمكن دائمًا من رؤيته مختبئًا خلف أقنعته بينما يعجز عن رؤيته الآخرون.

لأول مرةٍ لم يكن يخفي رغباته، لم يكن يكبت ابتسامته، ولم يحاول التغطية على مشاعره بالسخرية، شخصٌ أشعر بجانبه أن لا شيء مهم طالما هو معي، أن كل شيءٍ سيكون بخير.

الشعور الذي كان يمنحه أتريوس لي دفعني للاقتراب منه أكثر، لم نكن نرقص على القواعد والخطوات، كان تمايلنا كافيًا لكلينا.

يدي اليمنى التي كان يمسك بها أحطت بها عنقه ووضعت وجهي فوق كتفه حيث عنقه وأغمضت عيني مستمعةً بهذه اللحظة.

يده التي تركتها قام بلفها حول خصري ودفعني نحوه لألتصق به وهو يسند رأسه فوق رأسي بينما تنفسه قد أصبح أكثر انتظامًا وأكثر هدوء.

مشاعري لم تكن متفجرةً ولم يكن قلبي ينبض بقوة، في الواقع لم ينبض قلبي بهذا الهدوء من قبل ولم أشعر بهذه الراحة والرغبة القوية في النوم هكذا للأبد من قبل.

الشعور برغبته في التمسك بي كان كافيًا لجعلي أتمسك به للأبد حتى وإن حاول الإنكار لاحقًا.

في هذه اللحظة أدركت أنني لست معجبةً بأتريوس

أنا واقعةٌ بالكامل في حبه.

لا أعلم حقًا كم المدة الحقيقة التي بقينا فيها هكذا ولم أهتم، لم أدرك حتى أن الموسيقى توقفت منذ وقتٍ طويل، كل ما في الأمر أننا انفصلنا عن الواقع.

ولم يعدنا إليه سوى صوت مكبر الصوت الذي أصابه خطبٌ ما تسبب في صفيره بقوةٍ قبل أن يقوموا بإصلاحه.

يدي التي كانت حول عنقه أبعدتها ببطءٍ وابتعدت عنه بدوري وأنا أقاوم الرغبة في البقاء بين ذراعيه حتى يوم الغد، ذراعه التي كانت حول خصري أصبحت أخف ليسمح لي بالابتعاد، وفي النهاية ظل كف يده متمسكًا بخصري والأخرى رفعها ليلمس وجنتي بخفة.

أسند رأسه لرأسي وعينه تعلقت بخاصتي وهمس بصوتٍ يسمعه كلانا: "ألا يمكن للوقت أن يتوقف هنا؟ لمَ لا يصبح الأمر بالبساطة التي أريدها؟".

كانت أرى المقاومة في عينه، كان يريد ولا يريد! يجبر نفسه على قتل كل شيءٍ يحبه، يجبر نفسه على الابتعاد عني.

يدي الحرة وضعتها على وجنته، والشعور بذقنه ضد بشرتي كان شعورًا مختلفًا.

كنت واثقةً مما أقول ولا أهتم إن صدقني أم لا…

"لا أعلم ما الذي مررت به ليفقدك الثقة بالجميع، أتريوس، ولكن مهما حدث بيننا وكيفما انتهى الأمر لن أترك يدك يومًا، سأكون دائمًا هنا وسيكون كل شيءٍ بخير"

تنهد وقال بنبرةٍ يائسة: "لا تطلقِي وعودًا لستِ قادرةً على تنفيذها". ابتسمت وأجبت: "أنا لا أفعل، الأيام بيننا، لكن توقف عن دفعي بعيدًا".

لم يقل شيئًا لدقيقة، فقط ظل ينظر نحوي قبل أن يهمس: "لن أفعل". أتريوس لا يكتفي أبدَا من مفاجأتي؛ لأن جملته تلاها اقترابه مني أكثر وطبعه قبلةً صغيرة على رأسي.

الكهرباء التي صعقت جسدي كانت كافيةً لوصف الحالة التي وقعت فيها، ولكن أدركت أنني سأقف هنا لساعةٍ أعرض نفسي لموقفٍ سخيف إن لم أستفق وأتحرك بعيدًا عنه.

قد يغشى علي في الواقع نسبةً لتوقف أنفاسي.

تجنبت النظر نحوه وقلت بصوتٍ يكاد يُسمع: "تصبح على الخير". وابتعدت…

قدر المستطاع ابتعدت عن أتريوس قبل أن يصيبني بسكتةٍ قلبية.

توجهت حيث الحفل الذي كان الحضور فيه أقل بكثيرٍ من النصف، الموسيقى الخافتة تعزف للباقين والنيران الضخمة أصبحت أخف وأقل إضاءة، والجميع كانوا مبعثرين في المكان…

إما سكارى نائمون فوق المقاعد والأرض، وإما مجموعات صغيرة قررت قضاء الليلة هنا حتى الصباح يتحدثون ويتسامرون، والبقية عادوا لمنازلهم محتفظين بذكريات هذه الليلة، بعضها الجيد والآخر سيء.

أخذت مكانًا فوق أحد الجذوع الملقاة في المكان وأخذت أكبر نفسٍ يمكنني أخذه، لقد نسيت كيفية التنفس بجواره.

كيف يمكنني البقاء مع شخصٍ وجوده بالقرب مني يُنسيني كيفية التنفس؟ سأموت قبل أن أعترف بحبي له حتى!

ما الذي حدث اليوم؟ أنا حقًا مشوشة.

الكثير من الأفكار والمشاعر المختلطة ولا يمكنني التعبير، ولكني متأكدةٌ أن همساته الثابتة داخل ذهني أشبه بالربيع داخل صدري.

ابتسمت لنفسي قبل أن أغطي وجهي وأنا أشعر بالخجل من كل هذه الأحداث.

أبعدت يدي ونظرت حولي، علي أجد يوجين، ولكنه لم يكن موجودًا في المكان، ربما عاد للمنزل!

تنهدت ونظرت نحو النيران أحاول إحصاء ما علي فعله غدًا، الحديث مع واندر هو الشيء الأول. ابتسمت لمجرد تذكر كيف بدت ملامحها عندما دعاها السيد جولدامون للرقص، كان ألطف شيءٍ يمكن رؤيته.

"لقد كان حفلًا جميلًا"

ابتسمت أومأت متفقةً مع الشخص الذي جلس بجواري وقال فجأةً وهو يستند على مرفقيه.

 "أجل، كان جميلًا"

التفت أنظر للرجل الجالس بجواري، ظننت أنه شخصٌ أعرفه، ولكني كنت أراه للمرة الأولى! كان أول ما يبرز فيه الوشاح الأخضر حول عنقه والذي يطابق لون عينيه بامتياز.

شعره الأسود الكثيف أبعده عن وجهه بطوقٍ ذهبي اللون وهناك ابتسامةٌ جانبية على وجهه وهو ينظر للسماء.

ربما شخصٌ غريب فحسب؛ لذلك لم أدقق في الأمر كثيرًا حتى قال: "لقد احتفلنا بسببك، عليكِ أن تكوني فخورةً بنفسك، ابنة التوبازيوس".

عقدت حاجبي وشعرت بالتوجس منه، ولكنه أتبع حديثه قائلًا: "عندما قلت أنى أنتظر ضربتك القادمة لم أكن على علم أنها ستكون بهذه القوة، أنا حقًا مذهول".

تجمدت وأنا أتذكر أن شخصًا واحدًا فقط أرسل لي رسالةً ينتظر ضربتي القادمة! كنت متفاجئةً بحق.

نظرت نحوه وقلت بذهول: "أنت... أنت السيد إي!".

اتسعت ابتسامته اللعوبة وغمز قائلًا وهو يمد يده لنتصافح:

"إيراكوس، سعيدٌ بلقائكِ أخيرًا، جلنار روسيل"

 

 

كيوبيد : في الميثولوجيا الرومانية هو ابن الإلهة فينوس، هو صورةٌ دائمة الظهور في الأعمال المختلفة أو الكرتونية كطفلٍ يملك أجنحة وسهامًا ما أن تصيب الناس يقعون في الحب.

 

*****************************************

هالوووووووو

كل عام وانتم بالف مليون خير وعيدكم مبارك 

ربنا يجعله خير دائم عليكم يارب

ومن مكاني ده لكل مغترب بيعيد بعيد عن أهله احب اقله فرح وانبسط وجيبلك لبس جديد ونضف اوضتك وبخر المكان كأنك مع عيلتك بالظبط

متخلوش اي حاجه تكسر عليكم بهجة العيد مهما كبرتم 

فصل النهرده عيديه رغم تأخيره وان شاء الله هيكون في فصل تاني كمان شويه 

ولو قدرت انزل كمان فصل ثالث هنزل لكن مش أكيد اوي 

قروب (الفصل قصير) الفصل 18 الف كلمه 

اسمع حد فيكم بيقول كلمه عشان مرميش اللاب واعتزل للابد 

الفصل ده على قد ما فيه حرب بارده في القصر الملكي إلى أني بعتبره فصل مريح وفاصل بين الاحداث هو والفصل الي قبله فبحبه اوي

بالمناسبه تصميم المدونه كان اتغير عشان يكون الوصول للفصول اسهل بس واضح ان ناس كتيره اوي معرفتش تتعامل معاه وكانت متعوده على التصميم الاساسي فرجعته مؤقتًا

اول ما اخلص امتحاناتي ان شاء الله هلاقي مصمم يصمم قالب حلو للمدونه وسهل الاستخدام 

لوف يووو

باي

 

 

 

Esraa A

احظ بوقت ممتع بعيدًا عن العالم.

25 تعليقات

  1. وأخيرا.. شكرا اسراء ♥

    ردحذف
  2. عيدكم مبارك تعيدو بالصحة و الهنا ❤️❤️

    ردحذف
  3. هريمنا من شان دي ألاحظه😭👌🫂

    ردحذف
  4. عيدكم مبارك وكل عام وانتم بخير ❤️❤️❤️❤️❤️❤️❤️❤️

    ردحذف
  5. كل سنه وانتم طيبين ❤
    عيدكم مبارك 😍

    ردحذف
  6. تحفه كل سنة وانت بالف خير

    ردحذف
  7. ممكن حد يشرح لإسراء إنو الفصل ممكن يتعدى الثلاثين ألف كلمة بس أول ما نوصل لآخر كلمة بنحسه أقصر من أرتيانو؟ ✨✨✨✨

    ردحذف
  8. عيد مبارك للجميع ان شاء الله 💜
    الفصل ذا القراء القدماء امثالي اكيد كنا نحترق حماساً ل حتى نوصل اله ،وماتوقعت انه راح اشوفه قريب بالنسبة احنه متعودين على تحديث القديم الي شبه سنوي بلا نشوف بارت جديد شكراً من القلب 💜

    ردحذف
  9. ان شاء الله ما نتعب على ما نشوف الفصول الجديدة الي ما نشرت ولا مرة، وبالتوفيق للجميع في دراستكم 💜

    ردحذف
  10. عيدكم مبارك كل سنة و انتم طيبين ✨💖💖

    ردحذف
  11. عيدكم مباااارك ..
    القبلة يا اسراء مكانها مش على راسها انتي نسفتي الحتة دي فبن ،🤣

    ردحذف
    الردود
    1. لا القبلة في مكانها الصحيح ولا الفستان لونه ابيض اذكر انه كان لونه اسود وهذه التفاصيل عالقة براسي ومش قادرة اتخيل غيرها😂

      حذف
    2. أخيرا حد نفس تفكيري 😂😂🤝🏻

      حذف
  12. الفستان مش كان لونه اسود ؟

    ردحذف
  13. هذا الفصل صار من الظهر احاول اقراه لكن كل شوية جايين ضيوف..وانا حايرة بتقديم الضيافة..شكرا على البارت الرائع والجميل استمريت يا مبدعة

    ردحذف
  14. تحفة كل عام وانتي بخير اسراء

    ردحذف
  15. رقصة جلنار و اتريوس😭💖💖💖

    ردحذف
  16. ابغى اعرف بردو بما ان الاميرة كانت على وشك انها تهزم الملك اللي هو المفروض بيستخدم اربع عناصر هل ياترى هي بردو بتعرف تستخدم الاربع عناصر ؟! و اي هي العناصر اللي المفروض انها مولودة بتعرف تستخدمهم اكيد هما عنصرين فياترى ايه هما بقى ؟

    ردحذف
  17. هذا من اكثر الفصول الى احببببببها لقلللبي لو اعيييدها الف ملييون مرة مستحيل افقد حمااااس اول مرة قريتها فييه ابد 😭😭😭😭😭
    ❤❤❤❤❤

    ردحذف
  18. قلبي الصغير لا يتحمل😭😭😭😭😭❤️❤️. البارت بعنوان فرااشااااااتت !! يا عيني ع أتريوس الله يزيد من هذا الجانب منك. في انتظار باقي البارتات بكل تفاصيلها، الأكشن و الغموض و الرومانسية!!

    ردحذف
  19. مش كان الفستان اسود 🙂 ليش تغير للأبيض الاسود افضل

    ردحذف
أحدث أقدم

نموذج الاتصال