الفصل الواحد والخمسون | كاللقاء الأول

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

إفصاح: "بسم الله الذي لا يضرُّ مع اسمه شيءٌ في الأرضِ ولا في السماء وهو السميعُ العليم".

إفصاح آخر "على قدر الحلم تكون التضحية". عمرو عبد الحميد

مساحة لذكر الله
الغلاف الفائز في مسابقة التصميم لحساب _.topazios._ على الانستا:


شكرا لتصميم الفائزة المبدعه noor_millar
 لولا ان اتعدوت على غلاف الروايه الحالي كنت غيرته لتصميمها 
وشكرا لكل الي شارك في المسابقة
ابدعتم بمعنى الكلمة ♥


****************************************

الفصل الواحد الخمسون




من الصعب أن ترى كل شيءٍ ينهار فجأة

كل معتقداتك تليها مخططاتك

يتبعها إيمان من حولك بك!

وفي النهاية الثقة التي وضعتها في الآخرين.

لم يكن من السهل أن يحدث كل هذا في يومٍ واحد! وكأن العالم اتفق على أن جلنار أخذت ما يكفي من الراحة وربما عليه صفعها لتعود لأرض الواقع.

حيث الأمنيات الخيالية ممنوعة.

كانت رؤية جلنار للواقع منعدمة، جسدها ثابت فوق الكرسي الخشبي وفوق المائدة أحد منشورات إيراكوس موضوعة وعينها ثابتة عليها ولم تنبس بكلمة.

الجميع حولها كان يتساءل، يغضب ويصرخ، ولكنها ظلت ثابتةً في مكانها تنظر للورقة التي قرأها كل شخصٍ في المملكة وربما أيضًا عرف بها من هم خارج المملكة.

لقد كان التوقيت السيء، بل الأسوأ على الإطلاق!

السكان كانوا عند الحد الفاصل بين الثقة وعدم الثقة، وما حدث قد يدمر كل شيءٍ عملت عليه.

لم تكن جلنار حتى تلاحظ هذا ولكن جسدها كان يرتجف بقوة، كان الغضب والسخط يتملكانها ويتحكمان بها، لقد تلقت الإساءات طيلة حياتها ولا تتذكر أنها شعرت بمثل هذه المشاعر السيئة أبدًا.

أغدراسيل كان مدركًا لحالة جلنار السيئة فلم يُبعد عينه عنها وقد بدا قلقًا لصمتها، أراد من البقية أن يهدأوا للحظة؛ فثورتهم لا تساعد أبدًا، لكنه آثر البقاء صامتًا لهذه اللحظة.

باب المنزل الذي فُتح يليه دخول أوكتيفيان لاهثًا جذب أنظار الجميع نحوه، وقبل أن ينطق أحدهم بكلمةٍ وجد أوكتيفيان نفسه يندفع للخلف بقوةٍ ليصطدم ظهره بالجدار وجلنار تحكم قبضتها على مقدمة قميصه وعينها الدموية كانت تحمل نظرةً جعلته على يقين أنها على حافة ارتكاب جريمةٍ بدم بارد.

"أين هو ذلك اللعين؟"

تساءل لوهلة: متى أصبحت جلنار مصدر تهديدٍ مباشر حتى ينتابه القلق من حدة نبرتها الغاضبة؟ إذا كان إيراكوس هو من دخل من هذا الباب عوضًا عنه لكانت ذبحته دون التفكير مرتين.

"ليس موجودًا" لم تكن كذبة، حاول أوكتيفيان على الفور الوصول له ولكن باءت كل محاولاته بالفشل، وكأن الفتى لم يظهر قط. 

قبضة جلنار لكمت الجدار مباشرةً وعلى مسافةٍ تكاد تكون معدومة من رأس أوكتيفيان وصرخت: "ما الذي تعنيه؟ أين ذهب ذلك الجبان؟ هل انشقت الأرض وابتلعته؟".

صمت أوكتيفيان ولم يجد ما يجيب به. أجل، اختفاء إيراكوس بهذه الطريقة مثيرٌ للشك ولكن لم يرق له الأمر.

إنه يعرف إيراكوس، فعلةٌ كهذه لا تنم أبدًا عن نواياه، هل كان يعرفه حقًا؟ لطالما كان إيراكوس كتومًا وغامضًا جدًا وقد تمكن من إخفاء ماضيه بشكلٍ جيد، ولكن لم يكن التصرف الأهوج إحدى خصاله، حتى وإن أظهر العكس فكل خطواته مدروسه.

ما كان ليؤذي جلنار لمصالحه الشخصية، لقد كان شخصًا صداقًا

هل كان حقًأ؟

تقدم منهما جوزفين عندما خشي لوهلةٍ على أوكتيفيان؛ فقد بدت جلنار فاقدةً لأعصابها تمامًا، وضع يده على كتفها في محاولةٍ لتهدئتها قائلًا: "جلنار، اهدئي، لا تُحل الـ...". 

جسده الذي اندفع بقوةٍ منعه من إكمال جملته ورغم محاولته التوازن فقد اصطدم بالأرض. "أهدأ؟ أتريد مني أن أهدأ؟ بحق الإله أتظن ما حدث يدعو للهدوء؟ ضع نفسك في حذائي، ثم أخبرني كيف ستهدأ!"

تحرك تينر جام بسرعةٍ مساعدًا جوزفين على الوقوف ولمنع أي مشادةٍ قد تنشب بينهما، بينما تقدمت ثونار صارخةً بغضب: "ما الذي تظنين نفسك فاعلة؟". حاولت إخفاء إجفالها عندما التفتت نحوها جلنار بنظرةٍ غاضبة وقد أظلمت عينها وقالت بتحدٍ لم يعتده أحدٌ منها بينما تتقدم نحو ثونار: "ماذا؟ حاولي إيقافي إذًا". أشعلت ذراعها بالكامل وصرخت بصوتٍ جعل ثونار تتراجع خطواتٍ للخلف بحذر: "ماذا؟ ألن تفعلي شيئًا؟".

الجميع أخذ خطواتٍ مبتعدًا عنها، الجميع كان يخشى تلك النظرة التي انعدمت فيها أي لمحةٍ من لجلنار الهادئة، هارليك كان يحاول منع نفسه من الفزع وعينه تلمع بالدموع وقد اختبأ خلف رومياس بينما يتمسك بيده بقوة.

"عليكِ تمالك أعصابك، جلنار! أعلم كيف يبدو الأمر، ولكني أيضًا أعرف إن إيراكوس لن يقدم على شيءٍ مماثل" تدخل أوكتيفيان محاولًا دفعها للهدوء قبل أن تزيد الأمر سوء.

وجدت جلنار نفسها تتقدم نحو الطاولة وتنتزع المنشور بقوةٍ وتلفت نحو أوكتيفيان لتلقيه في وجهه قائلة: "إذًا أخبرني؛ لمَ شعاره اللعين على الورق؟ من يمكنه إلقاء المنشورات بهذه الطريقة سواه؟". تقدمت ووقفت في وجه أوكتيفيان الذي حاول تمالك أعصابه وقالت: "لمَ يختبئ كالجبان الآن؟ إن كان لم يفعل شيئًا خاطئًا؛ لمَ لا يظهر نفسه؟".

مجددًا لم يجد إجابةً مناسبة، لعن إيراكوس لاختفائه المفاجئ بينما يحدق في جلنار بلا إجابة.

دفعت جلنار كتف أوكتيفيان بقوةٍ بينما تعبر وقالت: "لقد وثقت بالشخص الخطأ، والآن علي تحمل خطئك وخطئي".

خرجت من المكان وضربت الباب خلفها بقوة ليجفل جسد هارليك ويتمسك أكثر برومياس الذي حاول طمأنته بالرغم من أنه ذاته يشعر بأن كل شيءٍ مخيف عند هذه النقطة.

"ما خطبها؟ هل تظن أن بإمكانها العصف بالمكان والخروج؟ ما الذي يحدث لجلنار بحق الله؟" صاحت ثونار بحنق قبل أن تخطو نحو الباب بغضبٍ قائلة: "سأعيد هذه الحمقاء لصوابها".

أمسك أغدراسيل بذراعها يمنعها من الذهاب خلف جلنار لتصيح بانفعال: "ماذا؟ هل ستتركها هكذا؟". ارتفع حاجبها لنظرة أغدراسيل الهادئة وحاجبيه المعقودين بانزعاجٍ مما دفعها للتريث قليلًا ليتنهد أغدراسيل ويفلت ذراعها

"علينا تفهم الأمر، من الواضح أنها ليست في حالة طبيعية" قال ناظرًا للجميع، ثم أردف ثانيةً: "الإله وحده يعلم أي ضغطٍ تتعرض له الآن، في النهاية الأمر كله يدور حول حقيقتها". صمت الجميع وبدوا في حالة من القلق والتوتر.

"المجنح محق، لقد فقدت أعصابها ليس إلا" التفت الجميع لأرتيانو الذي كان جالسًا فوق أحد المقاعد بهدوء يراقب دون التدخل. "لقد رأيت هذا من قبل، تلك نوبة غضبٍ يليها انهيار عصبي، ستكونون مجرد حمقى إن حاسبتموها على ما تفعله في هذه الحالة"

نهض من مكانه وقرر الخروج من المكان، ولكنه قال قبل خروجه: "إنها تشعر بالغدر بعد أن منحت ثقتها لأحدهم، وفي ذات الوقت قد لا يثق بها هؤلاء الأشخاص الذين عملت بجدٍ لكسب محبتهم، والرب يعلم من سيأتي خلفها بعد معرفة حقيقتها، لا أظن أن أحدكم كان ليصمد إن كان في الحالة ذاتها، توقفوا عن التصرف بدراميةٍ زائدة وكأن أحدكم لم يمر بذات النوبة سابقًا وامنحوها بعض الوقت" أغلق الباب خلفه بهدوء واتجه إلى وجهةٍ معينة، يعلم جيدًا ما عليه فعله.

"أنا لا أحب هذا! جلنار تبدو مخيفة" هارليك حاول تمالك نفسه وقال ليربت على رأسه رومياس ولم يجد شيئًا يقوله.

نظر أوكتيفيان لسواره الذي كان يضيء بينما نطقت السماعة اسم المتصل ( مساعد الأميرة). زفر بتعبٍ وتلقى الاتصال المرئي لتظهر صورةٌ مجسمة للأميرة ولم يكن تعبيرها ينم عن الرضا إطلاقًا.

مكبر الصوت الخارجي كان يعمل؛ لذلك استطاع جميع الفرسان سماع ما تقوله الأميرة والتي لم تترك فرصة لأوكتيفيان قبل أن تقول: "ما الذي فعلتموه بحق الله؟".

نظر أوكتيفيان بعيدًا بغير رضا، كان يمقت شعور العجز الذي يصيبه ولكن الأميرة أردفت: "ما الذي يعنيه أن تقف أمام الجميع وتصرخ بهويتها؟ أين هي قائدتكم؟". جملتها كانت قويةً وصارمة، ولكن لم تستطع ثونار تمالك نفسها فصاحت بغضب:

"ماذا؟ الآن نحن المخطئون؟ انظري جيدًا لأفعال النبلاء، لقد كان كل هذا مقصودًا، لقد دفعوا بجلنار للحافة لتفقد أعصابها، أتعلمين ما الذي يعنيه أن تري أبرياء يُلقى بهم تحت تهديد السلاح بينما تحملين نفسك مسؤولية حمايتهم؟ لا، أنتِ لا تفعلين، فأنتِ داخل قصرك المريح تصلكِ الأخبار بينما تجلسين فوق كرسيك في غرفتك الهادئة".

أوكتيفيان نظر نحوها بغضبٍ وهتف بتحذير: "ثونار! راقبي ما يخرج من فاهك أمام جلالتها". التفت عندما جاء صوت الأميرة باردًا: "لا تتحدثي بما لا تعرفين، أيتها الساحرة. سأتظاهر بعدم سماع ما قلته وسأتفهم الأمور القائمة كعذرٍ لك".

ارتفع حاجبا ثونار وتقدمت قائلة: "لقد قصدت كل كلمةٍ قلتها، أيتها الأميرة. لقد سئمت من هذا، لم يتحمل أحدٌ ما تحملته تلك البشرية، أنتم جميعًا مسؤولون عما حدث لها اليوم، إن كنتِ أميرة هذه المملكة فتحكمي بنبلائها إذًا، ألستِ تحلين مكان الملك؟ عوضًا عن محاسبتنا نحن من حاولنا صد ألف جندي اليوم اذهبي وحاسبي النبلاء على أفعالهم، لقد كانت أوامركِ واضحة، ولكن ألفن كان يتصدر جنده ويتبجح بمقدرته على فعل ما يريد ضد أوامر الأميرة، تحدثي مع المخطئ الحقيقي لمرةٍ في حياتك".

وجهت الأميرة نظرها لأوكتيفيان ببرود قائلة: "أكان ألفن يقف بين جنوده؟". صمت أوكتيفيان لثوانٍ قبل أن يومئ، صمتت الأميرة ولكن ثونار لم تترك فرصةً للصمت هافتةً بحنق: "افرضي سيطرتكِ عليهم، لا علينا، قبل أن يتآمروا عليكِ أيضًا".

توقفت عندما وضع جوزفين يده فوق كتفها وقال: "هذا يكفي، ثونار". فتحت فمها ولكنها ما لبثت حتى أغلقته وكتفت ذراعيها بعدم رضا.

"ما هي أخبار جلنار؟" ارتفع حاجب أوكتيفيان عندما تلمس قلقًا حقيقيًا في نبرة الأميرة حاولت تغطيته بنبرةٍ رسمية، تحكم برد فعله وقال: "حالتها سيئة، بالكاد تحافظ على أعصابها". نظرت الأميرة بعيدًا لوهلةٍ ولم يستطع أحد تخمين ما تفكر به، لكنها أعادت نظرها لأوكتيفيان وقالت: "عندما تهدأ بلغها أن عليها المجيء للقصر".

وبهذا أنهت المكالمة!

أخرجت ثونار صيحة غضب وركلت أول شيءٍ رأته أمامها "تملك الوقت فقط لإلقاء الاتهامات! لمَ لا تفرض تحكمها بشعبها أولًا؟". أوكتيفيان نظر نحوها وصاح وقد طفح به الكيل: "ثونار!". التفتت نحوه وهتفت بغضب: "لا أهتم إن كانت أميرة أم ملكة، لقد ضقت ذرعًا من هذا".

"أنتِ لا تعرفين أيضًا ما الذي تواجهه الأميرة في هذه اللحظة، إنها تعتبر المسؤولة أمام المملكة بالكامل، لا يمكنها التصرف كما يحلو لها لأنها فقط الأميرة، العائلة الملكية تملك فقط خمسين بالمائة من الأراضي، أيمكنكِ إخباري كيف يمكنها محاكمة أشخاصٍ يملكون نصف المملكة ونصف الشعب تحت حكمهم؟ أحلك المثالي إشعال حربٍ أهلية في وقت كهذا؟"

أوكتيفيان وضح ما يجب توضيحه منذ البداية، ولم تتمكن ثونار من الرد سوى بالصياح كاتمة غيظها: "نحن هالكون جميعًا!".

"هل أنتهيتم من التذمر؟ ما خطبكم جميعًا، أظننتم أن الفوز حليفنا دائمًا؟ خسارة جولةٍ لا تعني خسارة الحرب، إن كانت ضربتهم ستؤثر بنا لهذا الحد فلا أظننا أهلًا لهذه الحرب، ليعد كلٌ منكم لمنزله منتحبًا كما يريد، لكن لا تتظاهروا وكأن الأمر كان سهلًا منذ البداية، تذكروا نظرات الاستهجان عندما اختٌرنا وانظروا أين أصبحنا اليوم؛ لذلك توقفوا عن التذمر. ربما جلنار ليست في وعيها، لكنني أعلم جيدًا ما كانت لتقوله في وقتٍ كهذا" صوت تينر جام الجهوري كان من المؤكد ما يحتاجون له للاستيقاظ من الصفعة التي تركت أثرًا على وجوههم.

ابتسم لافيان وقال قاصدًا جلنار: "سنركل مؤخرة أولئك النبلاء!". ابتسم تينر جام نحوه وأومأ برضا...

ضربت ثونار ظهر لافيان بقوةٍ متحفزة وقالت: "أحسنت القول، أيها الأحمق! ذلك الحقير ألفن يفر بفعلته ويشرب نخب انتصاره؟ لن يحدث هذا!".

"ربما تحتاج جلنار لبعض الوقت! لكن لا يعني هذا أننا انتهينا، نحن فرسان مع أو بدون جلنار، ربما علينا تولي زمام الأمور حتى تدرك أن بإمكانها الاعتماد علينا في أوقاتٍ كهذه" رومياس وجد شجاعة الحديث، كان قلبه ينبض بعنفٍ ويده ترتجف بتوتر عندما حاول الحديث بصوتٍ عالٍ بينهم، ولكنه تمالك نفسه وتذكر ما قالته جلنار: لن يكون هناك شخص دائمًا للحديث عوضًا عنك! وتربيت زوندي على ظهره مشجعًا دفعه للابتسام براحة.

ابتسم جوزفين وربت على كتف تينر جام قائلًا: "لم أكن أعلم أنك بارعٌ في الحديث التحفيزي". نظر نحوه تينر جام وقال: "صدقني؛ لم أكن أعلم أنا أيضًا".

"إن كنا متفقون إذًا... علينا أن نبدأ الآن" أوكتيفيان قال بجديةٍ ونظر لوجوه الجميع المتحمسة والتي عادت متماسكة.

.... 

صوت الضربات كان الشيء الوحيد الذي يتردد صداه في الغابة.

قبضت جلنار كانت تضرب جذع الشجرة مرارًا وتكرارًا دون توقف، لم تشعر حتى بالتعب أو بآلام مفاصلها التي تكاد تُدمر!

كل ما أرادته هو الخلاص من ذلك الغضب الذي يقبض صدرها بقوة، والرغبة في إشعال النيران في جميع النبلاء، كانت تمقت نفسها بينما تشعر وكأنها حمقاء تم التلاعب بها.

الجذع مع كل ضربة كان يتدمر منه جزء وتهتز أغصانه بقوة، يد جلنار تحولت للونٍ أحمر بالكامل بسبب الجروح التي تسببت بها لنفسها.

كانت تلعن كل شخصٍ يخطر على عقلها، إن لم تخرج غضبها هنا لن تكتفِي المرة القادمة بدفع شخصٍ فقط!

يوجين ظل يراقبها من مسافة قريبة مكتفًا ذراعيه صامتًا ينتظر انتهاء تلك الحالة العصبية، كانت خائفة من أذية أحدهم في هذه الحالة وأرادت لو تهلك يديها حتى لا تتمكن من ضرب شخصٍ لا تريد أذيته.

ضربتان أخيرتان كانتا كفيلتين بإسقاط الشجرة بالكامل لترتطم بالأرض مثيرةً ضجة في المكان.

وقفت مكانها تلهث بتعبٍ، سقطت يداها بجانبها وقد فقدت الشعور بأصابعها ومفاصلها بالكامل.

سقطت أرضًا وقد أهلكت نفسها أخيرًا، ونظرها ثابتٌ على الجذع أمامها.

شعرت بيد يوجين على كتفها قبل أن يجلس بجوارها ويقول: "سيصبح كل شيء بخير". لم تحاول حتى النظر نحوه، كانت تفكر بكل شيء، كل ما قد يحدث بعد هذا اليوم.

ثقة سكان الحدود التي ستُدمر بالكامل بها، لا يمكنها التفكير كيف ستنظر لأعينهم مجددًا وقد آمنوا بها وهي غريبةٌ بينهم.

الأميرة التي وجدت نفسها في هذه الفوضى -فقط- لأنها وثقت في الشخص الخطأ، لأنها وثقت في جلنار.

أم فقدانها لأعصابها لأنها بنفسها وثقت في الشخص الخطأ! كيف لم تتخيل أن إيراكوس قد يكون متعاونًا مع النبلاء؟ أم كانت تلك الخطوة -فقط- لمصلحته الشخصية غير مبالٍ بجلنار أو النبلاء، لمَ وثقت به بحق الله؟

لأن أوكتيفيان كان يثق به!

كانت ثقة أوكتيفيان عمياء؛ لذلك أرادت هي أيضًا الوثوق في إيراكوس ولكن حدث ما حدث

والآن كل شيءٍ سيختلف، كادت تنجح في جعل سكان الحدود والعامة يثقون في الفرسان، ولكن عوضًا عن رؤية نظراتهم الممتنة والواثقة نحوها ستجد نظرات تتهمها بالكذب والخداع.

وضعت رأسها بين يديها وحاولت كتم صرخة الغضب داخلها بينما تعض بقوةٍ شفتيها، لقد تدمر كل شيءٍ في دقائق، لقد ظنت أنها تتحكم بالأمور، لكن وجدت نفسها فوق خشبة المسرح والنبلاء يمسكون بالنص كاملًا.

شعورها بالحنق والغضب لم يكن فقط سببه ما حدث مع النبلاء، نقطةٌ ما داخل عقلها كانت تصرخ باستمرار دون توقف بـ: قاتلة!

ما زال حوارها مع كاريان لم يفارق ذهنها حتى هذه اللحظة.

كانت تتذكر من قتلتهم بوحشيةٍ في كل مرة قاتلوا فيها، والأسوأ ألا أحد سيقف ويصدق ما سيقوله الإريبوسيون! لن يحاول أحد التفاهم وإن رأوا شخصًا ككاريان ببساطةٍ سيصابون بالذعر مندفعين لقتله.

هل عليها -فقط- الاستسلام وقتالهم حتى وهي تعلم أنهم يعانون أكثر من أي شخصٍ آخر؟ لقد أعطت كاريان وعدًا، ولكنها الآن تختنق بوعودها.

رأس جلنار كاد ينفجر لكثرة الأفكار التي تظهر هنا وهناك، لم تستطع التوقف عن التفكير، أرادت إيقاف تلك الأفكار المنهمرة، أرادت -فقط- أن تتوقف بأي طريقة؛ لذلك صرخت حتى شعرت بأن صوتها يكاد يختفي.

كان يوجين يشعر بالعجز في هذه اللحظة، لا يستطيع التفكير في شيء، الوقوف بجانبها ومواساتها لا يجدي نفعًا، تقتله رؤيتها في تلك الحالة وكل ما يفعله هو الصمت والمراقبة بحزن.

جلنار لم تكن تسمعه ولم يكن يوجين الشخص القادر على إخراجها من تلك الحالة البائسة، كانت مدمرةً بالكامل، جسدها يرتجف، يدها تحطمت ولا يمكن لصوت يوجين أن يصلها، تبدو وكأنها منفصلةٌ عنهم بتلك الأفكار اللعينة.

تجمد عندما عبر أحدهم من خلاله فجأةً ولم يلاحظ وجوده من البداية.

اتسعت عينه وهو يرى أتريوس يقف بصمتٍ خلف جلنار ينظر نحوها، كاد يصيح بغضب ولكنه تمالك نفسه فجأة واحتفظ بصمته

يتذكر كل ما قالته جلنار عن أتريوس سابقًا، إنه ليس وحشًا!

راقب بصمتٍ ما يحدث وحاول تجاهل شعور عدم الرضا داخله فقط للآن.

أتريوس جثا على ركبةٍ واحدة بجوار جلنار وأمسك بكف يدها الذي كان يرتجف بقوةٍ والدماء تغطيه بشكل سيء.

تنهد وأخذ قماشةً بيضاء كان يربطها حول كتفه ليلف بها كف جلنار بحرص، إن كان شخصًا في حالةٍ طبيعية كان ليصرخ ألمًا في هذه اللحظة ولكنها لم تصدر أي رد فعل حتى.

عندما أنهى أتريوس ربط القماش حول يدها تمتم: "هذه ستفي بالغرض للآن". رفع عينه نحو وجهها الخالي من التعبير، تنهد واعتدل في جلسته بجوارها. "أتحتاجين كتفًا للبكاء؟ لن أخبر أحدهم" قال ومال برأسه ينظر نحوها عن كثب.

صوته كان بمثابة المخرج من كل هذا، كان الشخص الوحيد الذي لا يبالي بعدد الأخطاء التي قد ترتكبها، لم يكن شخصًا سيطلب تفسيرًا أو سيهتم بما حدث.

كان فقط هنا!

ارتجفت شفتيها بقوة ولم تتمكن من التحكم بدموعها بعد الآن، عندما أهلكت جسدها بالكامل وأخرجت الغضب الجاثم على صدرها شعرت بأنها مثيرةٌ للشفقة بشكل سيء.

أرادت الشعور بأتريوس حولها، شخصٌ يخبرها أنه هنا، كما وعدت أن تظل بجواره تريد منه أن يفعل أيضًا.

رفعت رأسها لتنظر نحوه بعينين منهكتين ويخرج صوتها بصعوبةٍ ونبرةٍ متعبة: "لمَ لا يسير شيءٌ كما أريده؟". نظر نحوها بهدوءٍ لمدة لتردف: "لمَ كل شيءٍ يصبح أسوأ؟".

لم يستطع رؤيتها مدمرة لهذا الحد، كان يشعر بالغضب يدمره من الداخل والرغبة في الذهاب وذبح ألفن ومن معه في هذه اللحظة تصبح أكثر سوءً، لكنه كان يعلم أن هذه ليست الطريقة لحل الأمور، بل أن تركها هنا والذهاب هو أكثر شيءٍ قد يندم عليه طيلة حياته.

رفع يده نحو وجهها يحاول مسح دموعها التي لم تتوقف وزفر بهدوءٍ يحاول التخلص من الغضب الذي بداخله في هذه اللحظة.

ذراعه أحاطت كتفها ودفعها برفقٍ نحوه ليحتضن جسدها المرتجف بقوةٍ ويده الأخرى تمسكت بكف يدها المصاب وقال بهدوء: "لا شيء سيسير دائمًا كما نريد، لأننا لا نملك القدرة على التحكم بالعالم، ولن نفعل يومًا، هذا هو معنى أن تكون شخصًا على قيد الحياة، لن تكون الحياة في صفك، عليكِ تعلم كيف تكونين أنتِ في صف الحياة".

تمسكت به بشكلٍ أقوى وأرادت سماعه يتحدث، فقط سماع صوته حتى ينتهي كل هذا كان كفايةً لها ليُهدئ أعصابها، لا يعلم كم كانت ممتنة لأنه كان موجود هنا الآن.

"لست شخصًا مؤمنًا بطبيعة الحال، ولكن عرفت يومًا شخصًا كان مؤمنًا بطبعه، لم أنسَ ذلك اليوم الذي أمسك به بكتفي قائلًا: ستمضي عليك أيامًا وكأن كل تيارٍ يسير ضدك، إياك السخط والتذمر، إن عشنا آلاف السنين فالتدابير الإلهية لا يمكن لنا نحن المخلوقات البسيطة فهمها، اللبن المسكوب الذي نبكي عليه نادبين حظنا ما هو إلا لبن مسموم وانسكب، لم نعلم أنه مسمومٌ ولن نعلم حتى يُكتب لنا أن نعلم، تلك إرادة الإله؛ فكن على ثقةٍ به وواصل العيش، واصل النضال؛ فلم نخلق للاستسلام، خلقنا لنؤمن أن غدًا ما هو إلا يوم أفضل"

نبرته كانت هادئة ومنخفضة كان يضع ابتسامةً صغيرة على وجهه ويده استمرت في العبث بخصلاتها والمسح على ظهرها، ولكن نظرته كانت مختلفة

بالرغم تحديقه بمكانٍ عشوائي فقد بدا وكأن شيئًا آخر يمر أمام عينيه، ذكرى ما تسببت في تبديل نظرة اللا مبالاة التي يتصف بها دائمًا

كان يتألم!

يوجين الذي لم يبرح مكانه ظل واقفًا بصمتٍ يراقب أتريوس بحاجبين معقودين، وعندما استمع لما قاله شعر بالضياع، لم يعد بإمكانه التعرف على الشخص القابع أمامه على الإطلاق.

تحرك ووقف أمامه قبل أن يجثو على ركبةٍ واحدة وينظر وجهًا لوجه لأتريوس الذي ما زالت عينه ثابتةً لم تطرف، تلك لم تكن نظرة شخصٍ لا يهتم! شخصٍ لا يشعر!

كان يوجين تائهًا في هذه اللحظة بينما يحدق بأتريوس، يريد معرفة ما خلف هذه النظرة، النبرة والهدوء... لكنه أيقن شيئًا في هذه اللحظة هذا الرجل يحمل خلفه الكثير، ماضٍ شعر يوجين بالاضطراب لمجرد فكرة معرفة ما خلفه!

"أي رجل أنت بحق الجحيم؟" همس يوجين، لكنه لم يجد ردًا ولن يجد في هذا الوقت.

جلنار التي كانت قد هدأت نوعًا ما وتوقف جسدها عن الارتجاف كانت جفونها تصبح أثقل مع الوقت، ولكنها قالت بخفوت: "ألا يمكن لي أخذ بعض الراحة؟ لبعض الوقت فقط بعيدًا عن كل شيء".

تنهد أتريوس وقال: "لا، الأشخاص أمثالك لا يمكنهم أخذ راحة! لأنكِ إن فعلتِ لن يبقى شيء، إن استسلم شخصٌ مثلك، جلنار، فقد انقطع الأمل عن هؤلاء الأشخاص، إن لم تقفي أنتِ فمن سيفعل؟ لا يمكنك الراحة حتى ينتهي الأمر، ثم ستأخذين نفسًا وتنظرين إلى ما كنتِ عليه وما أصبحتِ عليه، وحينها ستتمكنين من الراحة كما تريدين".

لم تعقب على حديثه؛ لذلك قال: "لا يهم كم مرةً ستقعين فيها، مهما وقعتِ فوظيفة القدمين الوقوف مجددًا! لا بأس، سيتفهمون سبب كذبك…".

ابتسم براحة عندما شعر بأنفاسها تهدأ وتصبح أكثر انتظامًا، ونظر لوجهها الساكن وعينها المغلقة براحةٍ وقد ذهبت للنوم لكثرة الإنهاك، أبعد الخصلات التي سقطت تغطي عينها وهمس قائلًا:

"يمكنكِ إقناعهم بأي شيء، لقد جعلتِ رجلًا يظنكِ لا شيء آخر يعلم أنكِ كل شيء"

بعض الأحيان تكون أفضل خدمةٍ تقدمها لشخصٍ تحبه هي الانسحاب في الوقت الصحيح، وإعطاء مساحة لهأن تتخلى عن أفكارك ومخاوفك من أجله ولو لمدةٍ وجيزة، وهذا ما فعله يوجين في هذه اللحظة.

انسحب بهدوءٍ من المشهد، لكنه لم يستطع سحب شعور الجزع من داخله، طريقة نظرة أتريوس، ابتسامته، وطريقة تمسكه بجلنار... لم تكن طريقة رجل يعبث، رجل يساير فتاة معجبة، لم تكن حتى طريقة معجب...

لقد كان غارقًا في حبها!

لقد كان يوجين متمسكًا بأمل أن الأمر برمته ليس إلا من طرفٍ واحد، وحين يأتِي الوقت المناسب أتريوس سيعلم جلنار درسًا حاول يوجين إخبارها به، ربما ذلك الدرس سيكون قاسيًا، لكنها ستتعلم

لكن الآن ما يحدث مختلفٌ كليًا! لقد خرج تمامًا عن سيطرته ولم يعد بمقدوره مساعدة جلنار قبل أن تتعرض لأمرٍ محتوم.

حتى وإن أدركت أنهما سيفترقان لا محالة، التفكير في الأمر وحدوثه أمران مختلفان!

لذلك كان قرار يوجين ثابتًا منذ اليوم، سيدعمها مهما حدث، سيقف بجوارها، وعندما يحين الوقت الذي ستنكسر فيه سيكون واقفًا بجوارها.

قبض يده وعينه كانت تائهةً بينما يسير في أرجاء الغابة بلا هوادة، أفكارٌ كثيرة تقتله، يريد الوقوف لأجل جلنار، يريد البقاء معها دائمًا ورؤيتها في أفضل حال، إنه مدين لها بشعور البقاء حيًا بالرغم من أنه ليس كذلك، ولكن

تفكيره الزائد في حال جلنار كان أحد أسبابه محاولته تجاهل التفكير في نفسه، أجل، جلنار ستواجه أمرًا محتومًا، ولكن ماذا عنه؟ ألن يواجه هو أيضًا مصيره عندما ينتهي كل هذا؟

لن يكون هناك مكانٌ ليوجين، الحكيمة كانت واضحة، ما أن تنتهي مهمة ابنة التوبازيوس... يختفي الحارس!

كان يعلم أنه سيذهب، ولكن التفكير في الأمر يصبح أكثر رعبًا، إنه ميت على أي حال! لن يتمكن من العيش بطبيعية كالسابق، بل هو حتى لا يتذكر ما كان عليه، أي شخصٍ كان في هذه الحياة؟

هل ما يحدث له الآن عقابٌ ليكفر عن ذنبٍ اقترفه؟ أم رحمة حلت به؟ أم كان مجرد شخصٍ متمسك بالحياة بشكلٍ مستميت فكان هذا جزاءه؟

لم يكن يُمانع الاختفاء والذهاب لمرةٍ أخيرة سابقًا، ولكن الآن... بعد أن شعر بالحياة حول جلنار، بعد أن جعلته يتمكن من الشعور مجددًاألن يكون من الصعب تقبل الرحيل؟

انحنى على إحدى ركبتيه وأمامه أحد المخلوقات التي تأخذ الغابة منزلًا لها، كان قادرًا على رؤية يوجين وما أن داعب فراءه حتى تجاوب معه مغمضًا عينه باستمتاع.

نظر يوجين ليده الشبه مرئية وشعوره بالفراء ما زال يداعب أنامله، لا يمكنه الهروب، لقد وجد هنا لمهمة واحدة، حماية جلنار حتى يعود إلى حيث يجب أن يكون.

قبض يده بعزمٍ وقد ساعده التفكير على أخذ الكثير من القرارات واعطائه الشجاعة، سيبقى هنا لتأدية مهمته وعندما يحين الوقت سيتمكن أخيرًا من الذهاب للأبد، ولكن باعتزاز وفخر هذه المرة.

.... 

"إلهي، لا أعلم كيف تطورت الأمور بهذه السرعة" تنهد جوزفين وبعثر شعره بعشوائية، يشعر بالضيق لكل ما يحدث حولهم الآن.

ثونارالتي كانت تقف قبالته تسند ظهرها للجدار مكتفةً ذراعيها كانت تراقبه بزاوية عينها بصمتٍ بينما تطرق الأرض بقدمها بعصبية، ذهاب الجميع وقد تركوا كلًا منهما ينتظر أغدراسيل كان يدفعها لتفكير في صباح اليوم.

تصرفات جوزفين كانت عادية؛ لذلك رجحت ثونار أنه لم يتذكر شيئًا لشدة ثمالته.

زفرت بضيق للمرة المائة تقريبًا وهتفت بعصبية: "لمَ تغيير ملابسه يأخذ منه كل هذا الوقت؟". رفع جوزفين حاجبه باستغراب وقال: "لكنه ذهب منذ ثلاثين ثانية فقط!". لوحت بيدها وقالت: "ثلاثون ثانية وقت طويل".

راقب جوزفين مزاجها السيء بصمتٍ لمدة وجيزة، ولكنه لم يتمالك نفسه وسأل: "هل أنتِ بخير؟ تبدين متوترة بحق!". التفتت نحوه بنظرةٍ غاضبة وقالت: "لا عليكِ، سأملأ كأس المشروب احتفالًا بالحال التي وصلنا إليه". رفع كتفيه وقال: "في الواقع هذا ما كنتِ ستفعلينه عادة!".

أشاحت وجهها وقررت تجاهله حتى لا تنفجر في المكان، صوت تأوهه دفعها للالتفات نحوه مجددًا لتلاحظ إمساكه بذراعه ووجه منكمشٌ بألم. "هل كانت دفعتها مؤلمة لهذا الحد؟" سألت تقصد جلنار ليبتسم ساخرًا ويقول: "تمزحين؟ لا أشعر بشيء، إنها فتاةٌ في النهاية، لقد بدا الأمر وكأن نسيم د... تبًا، ثونار!".

صرخ بألمٍ عندما تحركت نحوه وصفعت ذراعه التي وقع فوقها عندما دفعته جلنار. "أوه، أعتذر! ظننتها لا تؤلم!" سخرت منه ليدحرج عينه ويقول: "حسنًا، إنها تؤلم، توقفي عن لكمها! تبًا، لا أعلم متى أصبحت جلنار بهذه القوة، يبدو أن التدريب مع أتريوس ليس لعبة".

جلست ثونار على الأريكة بجواره ونظرت لكفي يديها وقالت: "لا تحكم عليها". التفت جوزفين نحوها بتعجب وقال: "ماذا؟". ترددت ثونار لثوانٍ ولكنها فسرت: "أقصد جلنار، عليكِ أن تعذرها، لقد صرخت في وجهي وقامت بتهديدي أيضًا، لكن تلك النظرة لم تكن جلنار على الإطلاق، فقط رؤيتها على هذا الحال يجعلني أتساءل؛ كم من الضغط حملت نفسها بحق الله؟".

لاحظ جوزفين نبرة القلق في صوتها على الرغم من محاولتها لجعل الأمر غير شخصي، لم يستطع سوى أن يبتسم ويقول مازحًا: "يبدو أنكِ وجلنار مقربتان مؤخرًا!". اتسعت عينها ونظرت نحوه قبل أن تتفادى نظرته وتقول: "لا، إنه ليس كذلك، الأمر فقط...".

انخفض كتفاها وقالت: "إنها الوحيدة التي لم تحكم علي منذ اللقاء الأول، على رغم من أنني سببت لها المشاكل من قبل حتى أن تقابلني، لكنها لم تحكم علي يومًا حتى بعد أن أخبرتها ببعض الأمور الفظيعة التي سببتها، جلنار ذلك النوع من الأشخاص الذي لن يهتم، سيظل يعطيك تلك النظرة التي تقول إنه لا يهم ماضيك بل يهم ما أنت عليه الآن، دائمًا ستبتسم وتهتف بأن كل شيءٍ بخير، ولكن اليوم...".

صمتت قليلًا ومسحت وجهها بتوتر "أشعر بأن كل شيءٍ ينهار، عندما ترى الشخص الوحيد الذي كان يطمئنك بأن كل شيءٍ سيكون بخير ينهار ستعشر بأن لا شيء بخير بعدها، إنها لا تستحق ذلك".

نظر نحوها جوزفين لمدةٍ بضيق، ولكن ما لبث حتى رسم ابتسامة واسعة وقرص وجنتها قائلًا: "توقفي عن إظهار هذا التعبير، لقد اتفقنا على تصحيح كل شيءٍ بالفعل، ألم نفعل؟ والآن إن أردتِ إظهار بعضٍ مما تشعرين لجلنار عليكِ النهوض وتصحيح الأمور، وعندما تعود سنبتسم نحن ونهتف في وجهها بأن كل شيءٍ بخير".

دفعت يده عن وجنتها بغيظ ومسحتها بألم وقالت: "يمكنك إيضاح وجهة نظرك دون أن تمزق وجهي". اتسعت ابتسامته وقال بخبث: "هل ضايقكِ ذلك؟". ارتفع حاجبيها وعادت للخلف بحذر وقالت: "جوزفين، سأقتلك إن... جوزفين، لا تـ" انفجرت في الضحك عندما قفز فوقها محاولًا تثبيت جسدها ودغدغتها بينما تحاول المقاومة وضحكاتها تملأ المكان.

تمكنت من إمساك ذراعه وسحبه نحوها حتى يتوقف عن دغدغتها، ولكن ذلك تسبب إلى اقترابه منها أكثر.

تجمدت مكانها وهي تنظر لوجهه عن قرب، عينه الرمادية حدقت بها ولا إراديًا كان يتذكر ما حدث صباحًا ليشتم نفسه مائة مرةٍ في هذه اللحظة.

لقد خطط لنسيان ما حدث حتى لا يصبح الأمر غريبًا بينهما ويمكنه التحجج بأنه لا يتذكر شيءٍ بسبب ثمالته، ولكن الحدث الذي طبع داخل عقله كان يتكرر طيلة الوقت.

كانت الخطة أن ينكر الأمر، ولكن الآن لا ينفك عن التفكير في الأمر.

لم يكن جوزفين شخصًا يقاوم رغباته، خاصةً أن كانت ثونار هي محور رغباته؛ لذلك لم يبالِ بما قد يحدث بعد الآن وقد أخرس عقله لثوانٍ، ولكن كل شيءٍ تبعثر في الأرجاء عندما حطم صوت أغدراسيل الذي أعلن أنه جاهز بينما يهبط السلالم كل توقعاته.

في هذه الثانية كل ما شعر به جوزفين أنه حلق من فوق الأريكة مرتطمًا بالأرضية بقوةٍ والألم ينتشر في أرجاء معدته.

ثونار التي ركلت معدته ودفعته بأقوى ما تملك كرد فعلٍ تلقائي استقامت بسرعة، وبشكل آلي نظرت لأغدراسيل وقالت: "سأسبقك للخارج".

عقد أغدراسيل حاجبيه باستغرابٍ وهو يرى جوزفين متكومًا حول نفسه على الأرضية وثونار تتحرك دون أن تطرف بعينها حتى للخارج.

تحرك نحو جوزفين وساعده على النهوض بينما الأخير كان منثنيًا حول معدته يشعر بأنه يكاد يتقيأ ما في داخله. "ماذا حدث؟ هل أزعجتها مجددًا؟" أغدراسيل قال ليستند جوزفين عليه ويقول مشيرًا نحو المخرج الذي سلكته ثونار للتو: "لا تقترب من هذه المرأة، إنها أقرب لسلاح فتاك".

دحرج أغدراسيل عينه للثنائي الطفولي الذي علق بينهما في مهمته.

ثلاثتهم تحركوا نحو أرض ألفن حيث ظل سكان الحدود هناك بعد أحداث اليوم؛ فلم يتم السماح بعودتهم لمنازلهم أو عودة من كان منهم يعيش على أرض كليسثينيس حتى تهدأ الأمور ويجدوا حلًا لهذه الأزمة.

كانت هناك أرض سكنية ضخمة في أرض ألفن تم حجزها لسكان الحدود فقط حتى لا يختلطوا بالسكان النبلاء ولم يسمح لهم مغادرة هذه الأرض.

كل من الفرسان الثلاثة استعملوا قلنسوة الرداء لتخبئة وجوههم؛ فلا أحد يريد رؤية أي شخصٍ له علاقة بما يحدث في هذا الوقت، ولا أحد يعلم ما هي رد فعلهم على ما حدث.

عندما تعرف الجنود على الفرسان سمحوا لهم بالدخول لتلك الأرض السكنية لتضربهم الصدمة!

كان سكان سبع مقاطعات مجتمعين في مكانٍ واحد! الأمر أشبه بالجحيم؛ فقد كان المكان مزدحمًا بمن لم يجد غرفةً له وعائلته وظل جالسًا في الطرقات.

وعلى الرغم من الحالة المزرية التي لا يهتم أحد لمعالجتها بدت الأجواء غير مشحونةٍ كما كان الفرسان يظنون، كانوا يجلسون على الأرصفة والمقاعد الخشبية يتبادلون الأحاديث في مجموعات، الغرف التي تم حجزها سابقًا للسكان الذين تم وضعهم في أرض ألفن من البداية كانت أبوابها مفتوحة للجميع إن أراد أحدهم قسطًا من الراحة، وكان الطعام يوزع على الجميع.

ثلاثتهم وقفوا ينظرون للأجواء المختلفة هنا على الرغم من صعوبة الحياة التي يحظون بها، قبض جوزفين يده وشعر بالسخط لهذه الحال قبل أن يقول: "هذا يوضح سبب دفاع جلنار عنهم باستماتة".

تقدمت ثونار نحو مكتبٍ صغير للاستفسارات وقالت: "أهلًا بكم في الحياة البسيطة، هكذا يبدو الأمر". كانت ثونار معتادةً على هذا؛ فقد كانت أول شخصٍ يعتاد البقاء مع سكان الحدود وإمضاء الوقت في حانة سانت مارينل قبل أي شخصٍ آخر.

"لقد كانوا يتحدثون عنهم في الخارج وكأنهم نوعٌ من الأوبئة، ولكن... ما اللعنة؟ لا شيء من هذا صحيح" همس أغدراسيل يشعر بالذنب وبكونه مسؤولًا عن هؤلاء الأشخاص بصفته فارسًا.

دخلوا إلى مكتبٍ صغير في المكان يتم فيه تسجيل أسماء جميع الموجودين في حال ضياع أحدهم أو لسهولة الوصول إليه، المرأة التي كانت شبه نائمةٍ على الكرسي أجفلت عندما طرقت ثونار الطاولة بقوة.

"أوه! ماذا؟ أعنيعمن تبحثون؟" رفعت ثونار حاجبًا لشكل المرأة التي يرثى لحالها؛ فقد كانت شبه نائمة بينما علب الطعام مكومة فوق مكتبها، لكنها لم تتدخل ونظرت لأغدراسيل قائلة: "ما كان اسمها؟ لا أتذكر".

" إيفولا، ابنة ديكاري لاموفار، إنها من سكان جونري"

حركت الموظفة الشاشة المجسمة أمامها وفعلت الأمور الصوتي قبل أن تقول: "ديكاري لاموفار". في ثوانٍ ظهرت لها قائمة بالمعلومات عن الشخص المطلوب لتنظر بملل نحو أغدراسيل وتقول:

"إنهم في القسم (جي 3) الغرفة ستة وسبعون، ولكنك لن تكون مضطرًا للبحث كثيرًا، صخب عائلة لاموفار يمكنك سماعه من القسم (جي 1)"

لم يحاول أغدراسيل تفسير ما قالت وشكرها على مضضٍ وتحرك نحو القسم المذكور يلحقه كلٌ من ثونار وجوزفين.

"أخي، أنا أثق بك وبقراراتك، وأرى أنك تثق بقوة تلك الفتاة في الإقناع لأنها ساعدتك في نقل السكان قبل معركتنا تلك، ولكن... هل أنت واثقٌ من أنها ستساعدنا هذه المرة؟ أعني ألن تصرخ في المكان قائلةً: إنهم الفرسان، اقتلوهم؟"

قبل أن يجيب أغدراسيل على سؤال جوزفين كانت ثونار قد ضربت ظهره بقوة وقالت: "ماذا؟ هل أنت خائف من فتاة صغير؟". عقد حاجبيه بانزعاج وقال: "لست كذلك! الأمر فقط أن علينا الحذر في هذا الوقت تحديدًا؛ فالأمور لم تبرد بعد!"

صمت أغدراسيل لوهلة، ولكنه قال في النهاية: "حدسي يخبرني أنه بإمكاننا الوثوق بها الآن، لا بأس، سيكون كل شيءٍ بخير".

لوح جوزفين بيده وهتف: "رائع! وجهي الوسيم الآن يعتمد على حدسك في عدم أخذ بعض اللكمات والكدمات". زفرت ثونار بانزعاج ولكمت كتفه المصاب وقالت: "أنا من ستطبع الكدمات على هذا الوجه إن لم تخرس".

 أوقف أغدراسيل شجارًا كاد ينشب بينهما عندما قال: "ها نحن في القسم (جي 3)".

القسم كان مليئًا بالأشخاص فوق الأرصفة وأمام المباني السكنية العالية، جميعهم يشربون المشروبات الساخنة بينما الكثير من الأطفال يركضون في المكان دون توقف.

كان بإمكانهم من مكانهم سماع صوت امرأةٍ تصرخ وتنظم الجميع والكثير من الفتيات يوزعن المشروبات والمخبوزات تحت أوامر هذه السيدة.

تقدموا نحو المباني يبحثون عن رقم الغرفة التي أخبرتهم بها السيدة، وبعد مدةٍ أشار جوزفين نحو واحدة وقال: "هناك".

توقفوا في منتصف الطريق لها عندما لاحظوا أن الباب مفتوحٌ سلفًا وهناك الكثير من الفتيات حوله ورجال جلسوا مقابله يتسامرون وتلك المرأة ذات المزاج الحاد تدخل وتخرج بشكلٍ متكرر.

أخذ أغدراسيل نفسًا قويًا وتقدم نحو الباب المفتوح وأراد الطرق عليه على الرغم من أن المكان مزدحمٌ بالأطفال الذين يركضون ويقفزون في كل مكان.

أجفل عندما صاحت تلك السيدة في وجهه قائلة: "أنت!". نظر نحوها ولم تهتم هي لرؤية ملامحه؛ فقد دفعت علبةً من البسكويت الحار نحوه وقالت: "وزعها على القسم (جي 2) لم يحصلوا على كفايتهم".

توتر أغدراسيل ونظر لرفيقيه لتنفجر ثونار في الضحك ويلتفت جوزفين ممثلًا أنه لا يعلم من يكون هذا الشخص.

العلبة سُحبت من يده ليلتفت مجددًا للفتاة التي أخذتها وقالت ببعض الخجل: "أعتذر، أمي تصر على مساعدة الجميع حتى لا يحصلوا على وقتٍ سيء هنا، لكنها عصبية بعض الشيء". أومأ بألا بأس وكادت الفتاة تنفجر خجلًا، ولكنه لم يلاحظ ذلك؛ فقد سأل قائلًا: "أردت السؤال عن الآنسة لاموفار، أتعرفين أين هي؟".

ارتفع حاجبا الفتاة وقالت: "أنا الآنسة لاموفار!". طرف بتعجبٍ وتلعثم قائلًا: "لـلـكن تلك كانت..." قاطع حديثه السيدة ذات المزاج الحاد وقد جاءت فجأة وقالت: "أي واحدةٍ منهن تريد؟ هناك ثلاثون آنسة لاموفار في العائلة".

توتر قليلًا ولكنه قال: "ابنة التاجر ديكاري".

اتسعت عين المرأة وقالت: "إحدى بناتي!" التفت أغدراسيل للاثنين معه، ولكن كلاهما التفتا وتركاه وحده في هذه الورطة.

"أي واحدةٍ منهن أصابتك بمصيبتها؟ أعلم فتياتي جيدًا، إنهن شياطين تشبهنا ليس إلا! أوه يا إلهي، ألا يمكنهن التصرف بتعقلٍ حتى في هذه الظروف؟ أي من العشر فتيات قامت بإيذائك؟ لا بأس، سأدفع ثمن ما خربته"

اتسعت عينا أغدراسيل وصاح بسرعة: "لا، لم يحدث أي من هذا، نحن فقط" حاول إيجاد مصطلح مناسب ولكنه لم يجد شيئًا يصف به علاقته بـإيفولا؛ فلم يلتقيها إلا مرة واحدة وقد ساعدته فيها وبعدها هددته!

"أمي، عليكِ إعطاء المزيد من المشروبات للقسم (سي) إنهم أقل من حصل على شيءٍ للشرب"

صوت فتاةٍ يعرفه جيدًا صاح بينما يهرول نحو السيدة وأغدراسيل، التفت نحو إيفولا لتتسع عيناه بصدمة، فقد رفعت ثوبها وقامت بعقده فوق خصرها لتتمكن من الحركة بسهولة، وشعرها الرمادي جمعته بالكامل وفوق مقدمة رأسها ربطت قماشًا أسود وكأنها مستعدة لحرب ما.

"توقفي عن إشعالها حماسًا إيف! لقد تعبت من توصيل المأكولات للجميع، لم أخلق لهذا الضغط!" الفتاة ذات الشعر الأشقر بجوارها قالت وبدت أكثر اهتمامًا بمظهرها، فقد كان ثوبها لائقًا وصففت شعرها بعناية وخطواتها كانت أكثر حرصًا من إيفولا.

الاثنتان نظرتا لأغدراسيل بفضولٍ قبل أن تتسع عين إيفولا عندما أدركت من يكون لتهتف: "أنت! الفـ..." عضت شفتيها بسرعةٍ تمنع كلمة فارس من الخروج.

"أتعرفينه، إيفولا؟ كيف لم أخمن هذا؟ من غيرك قد يصنع المشاكل مع الآخرين؟"

دفعت إيفولا والدتها للداخل وقالت بسرعة: "إنه صديق! صديق، أمي... عليكِ الانتهاء من المخبوزات؛ فالجميع يسأل عن مخبوزات زوجة ديكاري الرائعة".

دبت الحياة في السيدة مجددًا لتصيح بحماس: "سيأكل الجميع اليوم من طعامي!" ثم دلفت مهرولة.

زفرت إيفولا بإرهاق ورفعت عينها لأغدراسيل. "من هذا؟" همست شقيقتها وهي تنظر لأغدراسيل بإعجاب، بالرغم من أنه من الصعب رؤية ملامحه كاملةً بسبب ظلال القلنسوة فإن طوله الفارع ونبرة صوته وحدها كانت كفيلة بإخبار شقيقة إيفولا أنه ليس شابًا عاديًا.

"ليس من شأنكِ، إديغار، اذهبِي وساعدي أمي" دفعت شقيقتها للداخل لتصيح مازحة: "لم أكن أعلم أنكِ أصبحتِ تقابلين الشبّان، أبي لن يكون فخورًا بابنته المفضلة".

دحرجت عينيها ومسحت وجهها بإحراجٍ قائلة: "أعتذر، إن عائلتي نوعًا ما..." تجمدت فجأةً ورفعت عينيها نحو أغدراسيل قائلةً ببرود: "لا، أنا لا أعتذر، أسحب اعتذاري، تلك عائلتي أعجبتك أم لا، وأنا فخورة بها".

رفع أغدراسيل يده كدفاعٍ وقال: "لم أقل شيئًا! إنها عائلة لطيفة".

لاحظت إيفولا النظرات الفضولية التي بدأت تزيد ونظرت بسرعةٍ لوالدها الذي كان حوله الكثير من أصدقائه على مسافةٍ منهم، لم ينتبه لها بعد، فأمسكت معصم أغدراسيل وسحبته خلفها بسرعة قائلة: "علينا الذهاب لمكانٍ آخر".

تبادل كل من جوزفين وثونار النظرات المتعجبة قبل أن يتبعوا إيفولا وأغدراسيل.

سحبتهم إلى مكانٍ أكثر هدوء وبالكاد يوجد شخصٌ به ليرفع أغدراسيل القلنسوة عن رأسه ويحرك شعره براحةٍ أكبر.

كتفت إيفولا ذراعيها ونظرت نحوه قائلة: "هل أنت أحمق أم أحمق؟ الجميع هنا غاضب، يحتاجون تفسيرًا وإن وجدوا أيًا من الفرسان بينهم لن يخرج سليمًا، الرب وحده يعلم ما يمكن أن يحدث لكم، لمَ أنت هنا؟".

مسح أغدراسيل على رقبته بتوتر وقال: "أردت الحديث معكِ". ارتفع حاجباها ببعض الدهشة؛ فلم تكن تظن أن فارسًا سيتذكر من تكون حتى بعد أن ساعدته وانتهى دورها.

عينها ذهبت لجوزفين وثونار الواقفان خلف أغدراسيل وقالت بنظرةٍ حذرة: "الحديث؟ ولمَ يستلزم الحديث وجود حرسٍ معك؟". رفعت ثونار القلنسوة عن رأسها ورددت باستنكارٍ واضح: "حرس؟". ابتسمت ساخرةً وقالت: "أنا لا أحرس أحدهم، أيتها الصغيرة!".

اتسعت عينها قبل أن تهتف: "أنتِ فارسة الساحرات". أظهر جوزفين وجهه بدوره وابتسم إحدى ابتسامته الجذابة وقال: "لا أحد هنا سيحاول أذيتك". تجمدت إيفولا قبل أن تقول: "مستحيل! أمير المتنكرين!". رفع جوزفين شعره بفخرٍ وقال: "وفارسهم، أيتها الفاتنة".

"لمَ هناك ثلاثة فرسان من أجل الحديث معي!" قالت بنبرةٍ حاولت إخفاء الخوف فيها ليبرر أغدراسيل: "الأمر فقط أنه كان علي البقاء بينهما" رفعت إيفولا حاجبًا بعدم فهم.

ركلت ثونار ساق جوزفين وقالت بنظرةٍ جانبية حادة: "توقف عن رسم هذه الابتسامة، أنت مثيرٌ للاشمئزاز ولست وسيمًا". مسح قدمه بتألمٍ ورفع عينه نحوه بغيظ قائلًا: "وأنتِ لست رائعة بسخريتك تلك، تبدين أقرب لطفل".

نظرت نحوه بغضبٍ ولكمت كتفه المصاب بكدمةٍ سابقًا وقالت: "لم أسألك عن رأيك، زير نساءٍ تافه". استقام أمامها وقال: "صهباء مجنونة".

زفر أغدراسيل والتفت لإيفولا التي كانت تراقبهما بدهشة وقال: "أفهمتِ الآن لما كان يصعب تركهما وحدهما؟". نظرت لأغدراسيل بأسفٍ وهمست: "الأمر واضح الآن، أعتذر لحياتك الصعبة".

ابتسم مرتاحًا عندما رأى أنها أصبحت أقل حذرًا وتبتسم براحةٍ أكبر وهي تراقب شجار ثونار وجوزفين.

"نحن في حاجةٍ لمساعدتكِ، إيفولا" قال أغدراسيل بجدية لتنظر نحوه باستنكار قائلة: "أنا؟ وكيف لفتاةٍ مثلي مساعدة الفرسان؟". ابتسم أغدراسيل بثقةٍ وقال: "يمكنكِ فعل الكثير، نحن حقًا في حاجةٍ لشخص مثلكِ، في ذلك اليوم كنتِ تملكين قوة إقناعٍ كبيرة، طريقة تحفيزكِ للسكان وتنظيمهم، كما يبدو أن عائلتكِ معروفةٌ بين الجميع، هذا يعني أنهم يثقون بكِ".

رفعت حاجبًا وقالت: "آنسة لاموفار". نبهته للرسمية بينهما قبل أن تردف: "عائلتي تعمل في التجارة منذ وقتٍ طويل؛ لذلك يعرفنا الجميع، ويبدو أن الإقناع مهارة ورثتها من والدي، على التاجر أن يكون مقنعًا" ثم نظرت بعيدًا لمدةٍ تحاول التفكير ولم يستطع أغدراسيل قراءة ما يدور في عقلها.

تفاجئ من نظرتها الجريئة والتي لم تتردد للحظةٍ وقالت بكل شجاعة: "إن أردت مساعدتي فعليك إخباري إن كنت تريد مني مساعدتك في إقناع الآخرين بالكذب أم الحقيقة؟". أراد السؤال عما تقصد، ولكنه أدرك أنها تقصد ما حدث هذا الصباح.

تقدمت خطوةً نحوه ووقفت أمامه وجهًا لوجه ولم تبالِ إن كان فارسًا أو أميرًا، لم تكن تهتم سوى للأشخاص الذين قضت حياتها بينهم وقالت: "هل البشر حقًا موجودون؟ لا.., السؤال الأصح: تلك الفتاة، هل هي بشرية؟".

قبض أغدراسيل يده وشعر بنظرات جوزفين وثونار نحوه وكأنهما ينتظران جوابه أيضًا إن كان صادقًا أو كاذبًا.

أخرج أغدراسيل نفسًا ونظر بثقةٍ لإيفولا قائلًا: "إنها بشرية". اتسعت عيناها بصدمةٍ ولم تجد شيئًا يمكنها قوله، سماع أنها بشرية من أشخاصٍ غير موثوق فيهم مختلفٌ عن سماعه من أشخاصٍ يعرفونها ويعيشون معها.

لقد كان سماع الأمر كأشعةٍ أو تكذيب على أفواه الآخرين مختلفًا تمامًا عن سماع تأكيده من فارس، لقد شعرت بأنهم كانوا يعيشون داخل كذبةٍ طيلة حياتهم!

"استمعي لي، لقد كنا نجهل الأمر أيضًا، ولكن عندما عرفنا لم نكن نملك أي خيارٍ سوى إخفاء الأمر لوقتٍ مناسب، لقد كنا مشوشين وتخيل بشريةٍ بيننا كان أصعب مما تتصورين، ولكن جلنار كانت مختلفة تمامًا عن كل خيالاتنا، البشر مختلفون"

قال بسرعةٍ لتحاول إيفولا تمالك نفسها وتتمتم: "إلهي! البشر ليسوا مجموعةً من الوحوش؟ تلك الفتاة... إنها مثلنا، تشبهنا كثيرًا". رفعت عينها نحو أغدراسيل وقالت: "هل جميع البشر هكذا؟ أعنيأهم كثر؟ يملكون كوكبًا وبلـ..." حاولت تمالك نفسها أمامهم وسألت مجددًا: "هل هي أبنة التوبازيوس حقًا؟".

هنا تدخلت ثونار قائلة: "لقد رأيتها بنفسك، ألم تفعلي؟". تذكرت صباح اليوم؛ فقد كانت موجودةً في الساحة وفي الصفوف الأولى تدفع الحرس بغضب، ما زالت تتذكر الرجفة التي مرت بجسدها عندما وجدت نفسها واقفةً تحت ضغطٍ قوي سببه حضور جلنار الغاضبة وهي على شفير قتل ألفن بدم بارد.

لقد سمعها الجميع بوضوحٍ عندما صاحت بغضب في وجه ألفن وبقوة لم ترَ إيفولا لها مثيل، أنا ابنة التوبازيوس

وذلك جعلها تتساءل، هل جميع البشر بهذه الشجاعة؟ القوة؟ هل هو مكان أفضل من هنا؟

نظرت نحوهم مجددًا وقالت: "لقد رأيت ذلك المقطع المصور، ما زال الجميع يتشاركوه إلى الآن، لقد كانت هي من بدأت أغنية المملكة الزائفة، أليست كذلك؟ لم تبدُ كشخصٍ يكرهنا، شخص يحاول إسكاتنا. أخبرني الحقيقة؛ هل يستعملها النبلاء ليجعلونا نصدق أنها معنا ليتحكموا بنا أم...".

صمتت ونظرت ليدها، لا يمكنها تخيل أن شخصًا قويًا وذا سلطةٍ يقف من أجلهم ويعيش بينهم، زمن جولديان قد انتهى قبل أن تولد حتى!

"أخبريني أنتِ؛ أتظنين أن فتاةً خاطرت بكشف حقيقتها لإيقاف إعادتكم لمكانٍ خطر قد تقف في صف النبلاء؟ فتاة بذكائها أجبرت النبلاء على الحرب وحمايتكم بجنودهم؟ هل من الممكن لفتاةٍ تضع نفسها في وجه المدفع من أجلكم أن تكون في صف النبلاء؟ لقد كنتم تقدرونها عندما كنتم تظنون أنها منكم، ماذا اختلف الآن؟ هل يغير كونها بشريةً أيًا مما فعلته؟"

هذه المرة تدخلت ثونار وتقدمت لتقف في وجه إيفولا التي توترت لوهلة وشعرت بالتشوش، تريد الثقة بهم، الثقة بتلك البشرية، لكنها لا تريد خيباتٍ أخرى، إنهم يحاولون النجاة بأي طريقة، وخيبة أملٍ أخرى ستحطم سكان الحدود.

حزمت أمرها وقررت ما عليها فعله لترفع رأسها وتقول: "إن أردتم مني إقناعهم فعلي أن أقتنع أنا أولًا، أريد مقابلة البشرية".

.... 

"توقف عن هز قدمك بهذه الطريقة، ستصيبني بالتوتر" همس لافيان ووضع يده فوق قدم رومياس ليتوقف عن هزها.

"أعتذر، ولكن لمَ علينا نحن مقابلة جلالة الأميرة؟ ألا يمكن لأوكتيفيان فعلها؟" قال بتوترٍ ليريح لافيان ظهره على الكرسي ويقول: "تعلم أنه يملك مهمةً أخرى، لا أحد غيره يعرف ذلك المدعو إي، ربما سيتمكن من إيجاده".

"أعتذر لترككم تنتظرون بهذه الطريقة" أجفل رومياس للصوت الذي اقتحم هدوء غرفة الضيافة فجأة، ولكنه ما لبث حتى انتفض واقفًا مع لافيان يلقون التحية على الأميرة جومانا شقيقة الملك.

"أتمنى أن تتفهموا انشغال الأميرة في هذا الوقت بالذات؛ لذلك عادةً ما تتأخر في استقبال ضيوفها، أتمنى ألا تمانعا إن استقبلتكما بنفسي؟" قالت بنبرةٍ مرحبة ودودة لينفي لافيان على الفور: "على الإطلاق، جلالتكِ! نحن سعداء لأن جلالتكِ موجودة لاستقبالنا".

ضحكت ولوحت بيدها وقالت: "لا تكن رسميًا جدًا، يمكنكما الجلوس". جلس الاثنين بعد جلوس الأميرة جومانا التي بالرغم من كل تلك الظروف حافظت على ابتسامةٍ ودودة مريحة.

"إذًا كيف هي أحوالكم؟ إنه يوم صعب، أليس كذلك؟" سألتهما لينخفض رأس رومياس ببعض الإحباط الذي لاحظته الأميرة، بينما تولى لافيان الإجابة "إنه بالفعل يوم سيء، لم نكن نظن أن الأمور ستنحدر لهذه الدرجة".

ظهر الأسف على وجهها وقالت: "إنه لشيءٌ مؤسف ومخجل، كيف أن العائلة المالكة أصبحت غير قادرةٍ في احتواء تصرفات النبلاء، بالرغم من أن القانون يخول العائلة المالكة بإمرتهم فإنهم يملكون بالفعل نصف أراضي المملكة وتحت إمرتهم عائلات النبلاء التي قد تصل لمليون شخص، أيمكنك أن تتخيل إن ثار كل هذا العدد لأجل رؤسائهم ضد العائلة المالكة ما قد يحدث؟".

تنهد لافيان ولم يجد ردًا مناسبًا لقوله؛ فالأميرة محقة، النبلاء بالفعل عقدة كبيرة في الطريق.

"أخي جلالة الملك أعاده لنا الإله سالمًا كان يفهم خطورة الأمر، ويدرك أن عليه مراضاة الطرفين، ولكن ابنته الأميرة تأخذ الكثير من المخاطرات هذه الأيام ولقد رأيتم بأنفسكم ما قد يفعله النبلاء إن نفد صبرهم"

جمع رومياس قبضته وأراد أن يقول: من منكم بالضبط هو الحاكم؟ ولكنه كان يدرك أن هذا سيكون أسوأ شيءٍ لقوله في وجه أميرة.

تنهدت الأميرة وحاولت وضع ابتسامتها المعتادة وقالت: "كيف حال ابنة التوبازيوس؟ لا بد من أن الأمر ثقيل عليها". تبادل رومياس ولافيان نظراتٍ سريعة قبل أن يجيب لافيان بنبرةٍ حزينة: "إنها منكسرة".

ظهر الذهول على وجه الأميرة وحاولت إخفاءه بسرعة وقالت: "منكسرة؟ لا أظن أن هذه الفتاة من النوع الذي ينكسر". ابتسم لافيان وقال: "جميعنا نظن هذا، ولكن يبدو أن لكل شخصٍ حده بالفعل، لقد أحبت سكان الحدود حقًا وكسر ثقتهم أثار حنقها كثيرًا".

ابتسمت الأميرة بهدوءٍ ولكن لم تفلح في اخفاء نبرة الانزعاج وقالت: "يبدو أن أعداءها فازوا بهذه الجولة". رفع رومياس رأسه ببعض الاستنكار، وكذلك لافيان ولكنه حاول تدارك نفسه، ضحكت الأميرة عندما لاحظت تعابيرهما وقالت: "ليس عيبًا أن تخفق، لن تفوز دائمًا، أليس كذلك؟ لكن عليكم التفكير بكيف تربحون الجولة القادمة".

بدت واثقةً من نجاحهم بالفعل، لم تكن جملةً لتشجيعهم فحسب؛ لذلك نظر رومياس للافيان وكذلك فعل الآخر قبل أن يقول بثقة: "وهذا ما نفعله".

بدت الأميرة متفاجئة من الثقة في صوته، فقد تعرضوا للضربة توًا ظنت أنها ستحتاج أكثر من جملة لرفع معنوياتهم بعدها، ولكنها ابتسمت بفخر وقالت: "هذا ما عليكم فعله" ثم استأنفت: "ما الخطة إذًا؟ إن كنتم تحتاجون مساعدتي في أي وقتٍ فلا تترددوا في الطلب".

ابتسم كلاهما بامتنان وكاد لافيان يفتح فمه لولا أن دخول الأميرة ابنة الملك قاطعه، بدت مرهقةً ولكن متماسكة قدر الإمكان.

"أهلًا، عمتي" حيت الأميرة جومانا وقد تناست التكاليف بينهما قبل أن تلتفت للفارسين بتعبيرٍ جامد وتقول: "مرحبًا بكما" نهض الاثنان ورحبا بها باحترام.

نظرت الأميرة لعمتها وقالت: "ليس عليكِ البقاء حتى هذا الوقت، لقد كنتِ تساعدينني من الصباح، عليكِ أخذ قسطٍ من الراحة".

نهضت الأميرة جومانا وأمسكت يد ابنة أخيها وقالت: "كيف لي الراحة بينما لا يرتاح لكِ بال؟ أنتِ أمانة أخي لي، لمَ لا ترتاحِي أنتِ وأنا سأتولى أمر الفرسان؟ تبدين مرهقةً، عزيزتي".

ابتسمت الأميرة بامتنانٍ وربتت على كتف عمتها قائلة: "أنا أصر على تولي الأمر هذه المرة، هيا، لا تدعيني أشعر بالذنب، عليكِ الراحة قليلًا". تحت ضغط الأميرة تنهدت جومانا وأومأت بانصياعٍ على الرغم من عدم رضاها عن هذا.

نظرت للفرسان وقالت: "لا ترهقوها كثيرًا، وإن كان من الأفضل تأجيل الأمر فافعلوا، تصبحون على خير". انحنى كلٌ من الفارسان باحترام حتى خرجت جومانا من المكان.

"لا بأس بإخباري بكل شيء، جلالتها تبالغ في القلق، لن تعودا من هنا فارغا الوفاض" قالت الأميرة حتى لا يتراجعا عما أحضرهما إلى هنا.

أومأ الاثنان وجلسا ما أن جلست الأميرة.

"إن كنتما هنا لتفسير ما حدث فلا أظن أن هناك شيء لتفسيره" قالت وبدلت نظراتها بينهما ببعض الغضب، أخذ لافيان نفسًا وقال: "نحن لن نفسر شيئًا لم نتسبب به". ارتفع حاجبا الأميرة بدهشةٍ ونظر رومياس بأعين متسعة نحو لافيان الذي ثبت على موقفه الجامد.

"نحن لم نتسبب في الفوضى التي حدثت اليوم، علي القول إن الضحية الوحيدة هي الفرسان هنا، لا أحد تضرر بقدرنا" نجح لافيان في جذب انتباهها بالكامل له بحديثه، ولم يترك لها فرصة الاعتراض لأنه قال بكل صراحة: "دعيني أكرر ما ظلت جلنار تكرره منذ اليوم الذي وقفت فيه في وجه النبلاء، نحن لا نحمي طبقةً واحدة ولا مجتمعًا واحدًا، نحن لسنا مكلفين من قبلكم، بل من قبل قوةٍ أكبر منكم جميعًا، وواجبنا هو حماية الجميع، والجميع يعني سكان الحدود عندما يتم طردهم تحت تهديد السلاح، جلالة الأميرة"

لم يزح عينه بعيدًا ولو لثانية، كان يثق بما يقول ولن يظهر غير ذلك. تنهدت الأميرة وأغمضت عينها لوهلةٍ قبل أن تقول: "لا أحاول لومكم، ولكن ألم يكن من الأفضل أن تتصرفوا دون فضح هوية جلنار؟". كتف ذراعيه وقال: "لم نفعل! المنشورات لم تكن خطتنا".

ارتفع حاجبيها وقالت: "ماذا تعني؟".

"أعني أنها ليست لنا ولم نخطط لذلك معًا، لقد فعلها ذلك الشخص المدعو بإي ولا نعلم لما، ربما في النهاية لم يكن سوى أحد أوراق ألفن الذي جعلنا نظن أنها أوراقنا، ولكنها احترقت بين يدينا في النهاية"

"كيف تبلي جلنار؟" سألت ليتنهد الاثنان في الوقت ذاته بلا ردٍ لتتمتم مستنتجة: "ما زالت سيئة، ها؟".

أومأ لافيان بلا كلماتٍ أخرى.

"إذًا إن لم تكونا هنا للتفسير؛ فما الذي جاء بكما؟" سألت بجديةٍ واستقامت في جلستها مستعدةً للإنصات لهما، نظر لافيان نحو رومياس وعندما لم يجد أنه مستعدٌ لأي حديث تولى هو مهمة الشرح.

"نريد شيئًا لن يقدر عليه سوى قوة ملكية" عقدت حاجبيها ببعض الاستغراب والتمع الفضول في عينيها، لكنها فضلت الصمت وتركه يكمل: "نريد أن نخبر الجميع الحقيقة، يجب أن يسمعها الجميع تخرج من أفواهنا نحن".

عندما لم يلاحظ أي تفاعلٍ من الأميرة عرف أن عليه الشرح أكثر، فقال: "نريد منصة، منصةً ضخمة وبارزة تمكن الجميع من رؤية من عليها، ونريد أن يجتمع كل سكان الحدود على أرضٍ واحدة ويبث الحدث في كل مكان".

ارتفع حاجباها وظهرت الدهشة أخيرًا على وجهها لتقول: "في جميع أرجاء المملكة؟". رطب لافيان شفتيه وشعر بالتوتر وحاول قولها، ولكن هذه المرة اكتفى رومياس من الصمت عندما أدرك أن صديقه تحمل ما يكفي من هذه المهمة وعليه فعل شيءٍ ما عوضًا عن الجلوس كدميةٍ صامتة.

يديه الباردة التي تجمدت لمجرد التفكير في أنه سيتحدث بما يريد قبضها بقوةٍ وحاول التنفس لتهدئة نبضاته وتذكر ما قالته جلنار، لن يتحدث أحدٌ عوضًا عنك.

ارتجفت شفتاه وحاول إخراج الكلمة بالصعوبة: "لـلا، في جميع... أرجاء الممالك كلها". رفع عينه في النهاية وحاول تثبيت نفسه قدر الإمكان، يشعر بجسده يتجمد وبشفته ترتعش، ولكنه كان يعرف أن عليه المحاولة حتى يصبح الأمر سهلًا.

الحديث هو من أسهل العمليات لدى الجميع، ولكن الأشخاص كرومياس كانت أصعب عمليةٍ يمكن أن يقوموا بها المشاركة في حوار أو التحدث مع غرباء! كان يشعر بأنه يحارب، لا يتحدث.

لم يكن سهلًا أبدًا حتى مع سخرية الجميع من حوله لصمته الدائم وخجله، لم يكن شيئًا يشجعه، وعندما يقولون له: "إنه مجرد حديث، فقط تحدث!" لم يكن مجرد حديثٍ بالنسبة له، كان مجازفة، لم يكن أحدٌ يعرف معركته التي يخوضها للحديث ولم يكن أحدٌ ممن يسخرون من جهده سيفهمونها يومًا.

لكن جلنار لخصت الأمر له، ربما كانت قاسيةً عن المعتاد ولكنها أفضل بكثير ممن كان يسخر منه، لقد قالت إن لا أحد سيتحدث عوضًا عنه... الفكرة وحدها كانت تدفعه للحديث، تدفعه للمجازفة والمحاولة لا يريد لصوته أن يخرس للأبد.

الأميرة لم تكن تعرف هل عليها إظهار ذهولها للطلب أم لشخصية المتحدث الذي تتذكر أنه لم يرفع عينه قط لعينها منذ أول مرة تقابلا!

لكنها ما لبثت حتى نهضت وهتفت بصدمة: "أجننتم؟ أتريدون أن يصاب الجميع بالجنون في وقتٍ كهذا؟".

"الجميع مصابٌ بالجنون بالفعل، جلالتكِ! لا أحد يحاول مساعدتنا لأننا نبعدهم عن الأمر بالكامل ولا أحد يحاول إخبار الجميع بما يحدث حتى"

قال لافيان لتحرك الأميرة رأسها رافضة وتقول: "لا، هذا الجنون بعينه، جلنار ليست في حالةٍ تسمح لها بهذا، وأنتم كذلك، والمملكة كلها كذلك. أخبرني؛ من ستضطر لتفسير الأمر بعد إعلانكم؟ نحن حتى لا نعرف ردود فعل الجميع على هذا، ماذا تريدون مني أن أخبر باقي الملوك؟".

"لقد اكتفينا من هذا" نظر الاثنان نحو رومياس الذي هتف قبل أن ينهض واقفًا ويكمل: "لقد اكتفينا من تلقي الضرر بصمت، إن كنا فرسانًا فعلى الجميع أن يعرف هذا، وكما تم بث أسمائنا جميعًا عندما تنصبنا كفرسان من حق جلنار أن يُعلن عن اسمها كقائدتنا. لم تكن تمانع يومًا البقاء في الظل، ولكن إن كان هذا سيؤذيها فلن نبقيها في الظل بعد اليوم، سنخبر الجميع بالحقيقة وطريقة تقبلهم لها تعود لهم، لا لنا".

حاول التقاط أنفاسه قبل أن ينظر بثقةٍ فاجأت الأميرة ويقول: "ليس عليكِ قول أي شيءٍ لأي أحد، نحن سنقول كل شيء".

.... 

لا يذكر بالضبط متى انتهى اليوم ومتى بدأ الآخر.

لم يكن منتبهًا لأي شيءٍ حوله فقط كان مكتفيًا بوجودها بين ذراعيه نائمة بهدوء.

كانت تلك أكبر فرصةٍ امتلكها لينظر نحوها طيلة الوقت دون أن يمسك به أحد، يداعب خصلاتها ويشعر بها له هو فقط دون أن يفكر في أي شيءٍ آخر من الماضي أو المستقبل.

نجح للمرة الأولى في حبس نفسه داخل الحاضر، لأنه المكان الوحيد الذي يضمن أنها ستبقى بين ذراعيه.

لقد كانت ساكنةً وهادئة، لا كوابيس أو نحيب، تمنى لو أنها تبقى هكذا للأبد مع ابتسامتها التي كانت كفيلةً بجعله يشعر بأن كل شيءٍ بخير.

لقد فكر جديًا في خلال هذا الوقت أن يحملها ويهرب بعيدًا عن كل هذا، لقد كان سيدًا في إخفاء نفسه ولن يكون صعبًا فعله ذلك مجددًا، يمكنهما الهروب وليحترق كل شيءٍ آخر، ما الذي أعطاه العالم لهما ليدافعا عنه؟

لا شيء!

لكنه أعاد التفكير عندما أدرك أن اللحظة التي ستفتح جلنار عينها وتدرك ما فعله لن تتردد عن إحراقه، ثم دفنه حيًا والعودة، لم تكن ذلك النوع الذي يهرب من المعركة.

نظر نحوها عندما بدأت تتحرك مستيقظة ولم يستطع سوى الابتسام وهو يلاحظ محاربتها نفسها للاستيقاظ على الرغم من رغبتها في النوم أكثر من هذا.

تثاءبت قبل أن ترفع رأسها من فوق صدره وتجلس متمسكةً بقميصه حتى لا تفقد اتزانها وتقع نائمة فوق الأرضية.

فتحت عينها تنظر حولها، تحاول تذكر ما الذي تفعله هنا ولكن ما لبثت حتى التفتت لأتريوس الذي ظل يراقبها بابتسامةٍ صغيرة.

"أتريوس!"

بصوتٍ شبه واعٍ قالت اسمه ببعض الاستغراب تحاول تذكر ما يفعل هنا.

نظرت للحالة التي هي عليها، لتتسع عيناها بإدراكٍ قبل أن تبدأ احداث يوم الأمس بالعودة لذاكرتها.

"تبًا!" شتمت بإحراجٍ وهي تمسح وجهها ليقهقه ويقول: "تبدين أفضل حالًا". رفعت رأسها نحوه وقالت: "هل ظللت بهذا الحال طيلة ليلة الأمس؟ كان بإمكانك دفعي بعيدًا".

رفع حاجبًا نحوها وكاد يقول: "أجننتِ؟ لقد كنت أفكر جديًا في اختطافك!" لكنه يعلم أنها ليست فكرةً سديدة؛ لذلك قال: "لم أشعر بالوقت كثيرًا، كنت منشغلًا في اكتشاف شيءٍ ما بشأنك".

"وما الذي اكتشفته؟" سألت ليجيب: "تهربين من مشاكلك بالنوم، طريقةٌ فعالة". ضحكت قبل أن تقول: "لقد أخذ هذا منك وقتًا طويلًا لاكتشافه".

توقفت لثوانٍ عند كلمة مشاكل وتذكرت ما فعلته في المنزل بدايةً من دفع جوزفين حتى لعنهم جميعًا والخروج، أغمضت عينها وصاحت: "إلهي، ما الذي فعلته؟". ألقت برأسها فوق كتف أتريوس الذي قال: "أوه! والآن بدأتِ مرحلة تأنيب النفس".

رفعت رأسها ونظرت نحوه بحدة "لقد دفعت جوزفين! أيمكنك أن تتخيل؟ وشتمت ثونار، تبًا! لقد تحولت لأخرى حمقاء". رفع كتفيه وقال: "لا أظنها مشكلةً كبيرة، أنتِ القائدة، ليس عليكِ الاعتذار، لن يعارضكِ أحد".

أرسلت نظرة (حقًا؟) نحوه قبل أن تقول: "هذا سيحدث في حالة كان القائد شخصًا يبدأ اسمه بحرف الـ أتريوس، أتعرف شخصًا مشابهًا؟".

ضحك وقال: "أظنني قابلت شخصًا كهذا". نظر نحوها بخبث وقال: "وأظن أنني أعرف فتاةً معجبةً به بشكلٍ سيء". اتسعت عيناها قبل أن تضرب كتفه بقوةٍ صائحة: "توقف عن هذا، لقد بدأت أندم بالفعل على اعترافي".

نهضت لتقف بعيدًا عنه، ولكنه لم يترك لها فرصة وسحب ذراعها لتسقط فوقه مجددًا ويطبع قبلةً على وجنتها، ثم ينظر لها بجديةٍ قائلًا: "وأعرف أن هذا الرجل يملك حظًا لا يستحقه". ابتسمت جلنار وحاولت بقدر الإمكان منع نفسها من الاحمرار، ولكنه لم يتوقف...

قبل وجنتها الأخرى بهدوء وقال: "وأعرف أن تلك الفتاة قادرةٌ على فعل أي شيءٍ تريد فعله وأن الجميع مفتونٌ بها بشكلٍ كبير". كان عليها التركيز لتعيد كل شيءٍ لنصبه، ولكن أتريوس دمر كل خطط التركيز والانتباه الذي قد تحظى به بهذا اليوم...

اقترب وطبع قبلةً أخرى فوق ذقنها وهمس: "وأعلم جيدًا أن هذه الفتاة هناك رجلٌ واحد محظوظ كفاية لتكون معه".

حبست أنفاسها وشعرت ببعض الدوار بينما أنامله تداعب ذقنها بهدوء.

لم تتمكن من الصمود؛ لذلك تحركت وطبعت قبلةً فوق وجنته وقالت بتوترٍ حاولت إخفاءه: "وأعرف أن هذه الفتاة على حافة الجنون؛ لذلك عليها الذهاب".

نهضت بسرعةٍ ولم تتجرأ على النظر نحوه مجددًا لترى الابتسامة التي حاول إخفائها.

لم تملك الجرأة لتنظر خلفها بينما تفكر فيما قد كان ليحدث إن لم تتحرك، كان يسير خلفها قبل أن يسرع في خطواته ليسير بجوارها ويقول: "ما الذي ستفعلينه إذًا؟". شعرت بالراحة لتطرقه لموضوعٍ مختلف وأجابت: "أعتذر للجميع كبداية، لأنني أشعر بأني مجرد لعينةٍ لانفعالي عليهم".

رفع حاجبًا وتمتم: "هذا غريب، أفعل هذا طيلة الوقت بدافع التسلية ولا أشعر بالشعور ذاته مطلقًا". نظرت نحوه بطرف عينها وقالت ساخرة: "ربما لأن هذه طبيعتك، لن تشعر بفرق حتى". عقد حاجبيه لثوانٍ قبل أن يتمتم برضا: "أظن هذا".

ضحكت جلنار وحركت رأسها بيأس.

"إذًا، ما هي خطتكِ؟" سأل ونظر نحوها ليلاحظ التنهيدة التي أخرجتها قبل أن تقول: "أعتذر للجميع قبل كل شيء". دحرج عينه مظهرًا عدم مبالاته بهذه الخطوة وقال: "ثم…".

نظرت نحوه في صمتٍ دام لمدة، وفي النهاية رفعت كتفيها قائلة: "لا أعلم، لا أملك أدنى فكرةٍ عما يجب علي فعله، أتريوس، لأول مرةٍ أنا لا أملك خطة".

ضم شفتيه لثوانٍ يراقب هالة الإحباط التي تحوم حولها؛ لذلك وضع ابتسامة واثقةً وربت على ظهرها قائلًا: "واثقٌ من أنكِ ستملكين واحدةً في خلال وقتْ قصير". ابتسمت بامتنانٍ نحوه، لا تعلم حقًا إن لم يكن بجانبها في هذا الوقت كيف كانت لتهدأ.

رفعت عينيها عندما ظهر المنزل من بعيدٍ وخطوتها أصبحت أبطأ من المعتاد وقد لاحظ أتريوس ذلك، لكنه لم يعلق وأبطأ من خطواته حتى لا يجعلها تلاحظ ترددها.

وقفت أمام الباب تشعر ببعض الخوف من فتحه، لا يمكنها تخيل كم الخجل الذي ستشعر به من نفسها عندما تراهم ينظرون لها من خلف هذا الباب.

التفتت لأتريوس الذي وضع يده فوق رأسها وبعثر شعرها محاولًا تخفيف توترها وقال ساخرًا: "ماذا؟ الصغيرة خائفة؟". عبست في وجهه وقالت: "لست كذلك". رفع كتفيه وقال: "إن كنتِ ستركضين بعد ثوانٍ هاربةً فأخبرني لأستعد للضحك".

نظرت نحوه بغيظ وغمغمت: "أحمق". التفتت نحو الباب بعزمٍ ودفعته ليفتح ونظرت لأتريوس بانتصارٍ والذي في المقابل أرسل نظرة تفاجؤ مصطنعة نحوها.

لم تتمكن من رؤية الابتسامة الصغيرة على ثغره عندما دلفت للداخل.

أخذت نفسًا قبل أن تنظر إلى الطبخ ولم تجد واندر حتى، عينها بحثت في المكان ولكن لا أحد موجود.

"تبدين فظيعة، قبيحةً بالمعنى الأصح"

صرخت جلنار بفزعٍ والتفتت تبحث عن صاحب الصوت، ولكن كان عليها النظر للأسفل لتلاحظ أرتيانو الذي كان يتجه إلى المائدة.

"تبًا" همست ممسكةً بصدرها، لم يهتم وأردف: "عينكِ تبدو منتفخة، إنها بشعة". دحرجت عينها ولم تكلف نفسها عناء رد إهانته.

"أين الجميع؟" كان يضع أوراقًا فوق المائدة، ولم ينظر نحوها بينما يجيب بلا مبالاة: "لا أعرف ولا أهتم". رفعت جلنار حاجبًا وتمتمت: "نموذجي".

عندما انتهى مما يفعله التفت نحوها وقال بجدية: "إن كنتِ انتهيتِ من النحيب كالأطفال فهناك عملٌ مهم علينا إنجازه". أخذت نفسًا قويًا وأرادت إهانته في المقابل، لكنها أدركت أنها الخاسرة في النهاية.

"ألا يمكنك أن تكون أكثر لطفًا؟" سألت باستنكارٍ لينظر نحوها بطرف عينه ويقول: "لا أملك الوقت لرعاية الأطفال، والآن توقفي عن التذمر وانظري إلى هذا".

أشار إلى طاولة المائدة لتتنهد جلنار باستسلامٍ وتلقي نظرةً على الأوراق المبعثرة فوق المائدة، الكثير من الكتابات القديمة، وأبرز ما يميزها كان رمز العنقاء الأصفر الموجود في أغلب الأوراق تقريبًا.

"هذا" تمتمت بينما تمسك بإحدى الأوراق التي رسم عليها الشعار. "تمامًا، الشعار الذي يستخدمه ذلك الفتى، لقد جذب انتباهي يومًا عندما قلتِ إنكِ ستفتشين عنه لمعرفة حقيقة (إي) ذاك، ولكنكِ لم تفعلي لظنكِ أن كل شيءٍ أصبح منكشفًا، بحثت عن بعض المعلومات، وفي الواقع علي القول إنكِ غبية لعدم بحثكِ عنه سابقًا".

بدلت عينها بينه والورقة التي رُسم عليها الشعار ببعض التردد، وقف أتريوس بجوارها ينظر لجميع الأوراق بجبينٍ معقود يحاول فهم تسلسل الأحداث المكتوبة عليها.

أشار أرتيانو لأحد الكتب المفتوحة على صفحةٍ معينة وقال: "ابدئي من هنا". وضعت جلنار الورقة جانبًا ونظرت للكتاب بينما قال أرتيانو: "لقد جمعت كل الأحداث بتسلسلٍ زمني واضح، كانت هذه الوثائق مبعثرةً حول المملكة كلها، ولكن لم يكن من الصعب الحصول عليها في وقتٍ قصير".

تفقدت جلنار المكتوب بعينها قبل أن تقرأه بصوتٍ واضح: "من الطبقات الاجتماعية التي شكلت مملكة الإلترانيوس بامتياز الطبقة النبيلة، فقد كانوا أبرز المشاركين في التغيير الحاصل بعد الحرب الكبرى، وقد كانت العائلات النبيلة خير مثالٍ على التعاون وإنماء هذا المجتمع...".

أنهت الصفحة ليشير أرتيانو إلى وثيقةٍ أخرى لتقرأها جلنار: "كانت الرموز إحدى أهم الحركات التعبيرية في مملكة الإلترانيوس، وقد اعتادت كل فئةٍ رسم الرمز الخاص بها والذي يعبر عنها. العائلة المالكة كانت تتخذ رمز الدرع والسيفين مع تاجٍ يعتليهم كرمزٍ للقوة والدفاع والملك، الطبقة النبيلة اعتادت استخدام رمز العنقاء والذي يدل على القوة والعلم والتعاون والعطاء، أما الوسطاء...".

لم تكمل جلنار المكتوب لعدم أهميته لموضوعهم ونظرت لرمز العنقاء الأصفر المرسوم بجوار النص الخاص بالطبقة النبيلة.

أعطاها أرتيانو صفحاتٍ أخرى تبدو ممزقةً من مكانٍ ما وقال: "اقرئيها جيدًا". كانت جلنار مشوشةً وساخطة، المذكور بالكامل كذب، العائلات النبيلة والعطاء؟ أي مزاحٍ هذا؟

ولكن ما شوشها أن رمز العائلات النبيلة الحالي لم يكن يمت بأي صلةٍ للعنقاء، تتذكر أن جنودهم يضعون على دروعهم وأزيائهم رمز سيفٍ تمسكه قبضةٌ قوية

لذلك تابعت قراءة ما أعطاها أرتيانو والذي كان مشابهًا تمامًا لاتفاقٍ أو صورةٍ لوثيقة قديمة: "بختمٍ من المملكة وبالحلف أمام الملك الجديد لمملكة الإلترانيوس تقسم العائلات النبيلة الأربعة بالحفاظ على العهد والقيام بواجباتها تجاه المملكة والمواطنين والتعرض للمحاكمة وعقوبات قد تصل للإعدام إذا ثُبت الاستهتار أو التجبر على أحد مواطني المملكة

عائلة كاريل

عائلة رومسيسان

عائلة كليسثينيس

عائلة إيثانيا

الطرف الموثق أعلاه...".

أمسكت جلنار بالكتاب الذي أشار عليه أرتيانو وقرأت: "ظلت العائلات الأربعة محتفظةً بأدوارها في المملكة وقد أظهرت التعاون والنبل في تصرفاتها، فقد كانت مسؤولةً بشكلٍ كامل عن علاقة سكان الحدود والعامة ببعضهم وقد شهدت المملكة عهدًا من الازدهار بين الطبقات والعدل بينهم، وقد كانت لكل عائلةٍ مسؤوليتها...".

أخذت قصاصةً من ورق وقرأتها: "عائلة رومسيسان النبيلة مسؤولةٌ عن توزيع الغذاء والثروات الغذائية بالتساوي بين الطبقات، عائلة كاريل النبيلة على عاتقها مسؤولية توفير العمل للجميع والعدل بين الأيدي العاملة وتوفير المساكن، عائلة إيثانيا النبيلة لها كامل المسؤولية في الحفاظ على العلاقات بين الطبقات والعدل في الحكم بين الخلافات وتوفير فرص التعلم للجميع، عائلة كليسثينيس النبيلة المسؤولة عن حماية الشعب والحفاظ على أمن السكان والحكم على أي نوعٍ من أنواع التعدي أو التجبر في المملكة على أي من الطبقات، وبهذه الموازنة حققت مملكة الإلترانيوس الفرص وأصبحت رمزًا للـ...".

توقفت جلنار عن القراءة تشعر بصدمةٍ وتحاول ربط الأمور ببعضها. "هل فهمتِ الآن؟" سأل أرتيانو وجمع الأوراق معًا داخل مجلدٍ ضخم. "هل تقول إن العائلات النبيلة كانت مختلفةً تمامًا عن العائلات الموجودة حاليًا؟". أومأ لسؤال جلنار وقال: "هذه المعلومات كانت مخبأةً بحرصٍ وبعضها تم إتلافه قصدًا، استطعت تجميع المبعثر منها من المكتبات والأرشيف القديم الذي تم نسيانه، أسماء عائلات ألفن وجلين ودول وصاميومين لم تذكر في التاريخ، لم يذكر سوى اسم عائلةٍ واحدة...".

"كليسثينيس" نطقت جلنار بالاسم وقد أدركت الآن ما يحدث. "هذا يعني شيئًا واحدًا" قال أتريوس ونظر لجلنار متأكدًا من أنها وصلت للاستنتاج ذاته.

"لا تاريخ لعائلات هذا العصر كما يدعون، عائلة كليسثينيس الوحيدة التي لها أصلٌ وتاريخ في المملكة، سيدة العائلة ما زالت تحاول الحفاظ على تاريخ عائلتها والقيام بوظيفتهم، حماية المواطنين مهما كانت طبقاتهم؛ لذلك كانت الوحيدة التي ما زالت تدافع وتفتح أرضها لسكان الحدود"

قالت جلنار قبل أن تنظر لأرتيانو وتقول: "ماذا عن أسماء العائلات المكتوبة هنا؟ ماذا حدث لها؟ كيف بحق الله أصبح النبلاء من عائلاتٍ عملها هو المحافظة على نظام المملكة والعدل بين الجميع إلى مجموعةٍ من الحثالة؟".

رفع أرتيانو المجلد أمام وجهها وقال: "هذا كل ما وجدته عنهم، ربما إن بحثنا بشكلٍ موسع قد نجد شيئًا آخر، ولكن حاليًا لم ألحظ أي معلومةٍ تتحدث عن نهايتهم وكل المعلومات المذكورة عن أصول العائلات النبيلة الحالية مجرد كذب، إن جمعتها وقرأتها ستلاحظين التضارب في الأحداث وعدم تناسق بعض التواريخ مع الأحداث المذكورة، مهما كنت مزورًا بارعًا فبالتأكيد ستترك خطأ أو اثنين".

جلست جلنار فوق أحد كراسي المائدة تفكر في الكثير من الأشياء، ولكن السبب الأساسي لبحثهم عن الأمر قفز لرأسها لتقول: "لمَ يستخدم إيراكوس هذا الرمز إذًا؟". طرق أتريوس الطاولة بأصابعه وقال: "لا يصعب استنتاج الأمر، إما أن هذا الفتى أصله يعود إلى إحدى هذه العائلات الأربعة". أومأ أرتيانو وأكمل: "أو إما أنه يسخر منا إن كان بالفعل متعاونًا مع ألفن".

زمت جلنار شفتيها قبل أن تقول استنتاجًا ثالثًا: "أو أنه يحاول إثبات شيء ما". رفعت عينها نحوهما وأردفت: "النبيل الجيد والنبيل السيء". ابتسم أتريوس وفرق أصابعه قائلًا: "استخدام رمز النبلاء الجيدين في زمن النبلاء السيئين".

التفت ثلاثتهم نحو الباب عندما انفتح فجأة وهاجمت أصوات المحادثات والشجارات المكان بينما يدخل بقية الفرسان.

صمتوا جميعًا عندما لاحظوا الثلاثة حول المائدة يحدقون بهم. "جلنار!" كانت نبرة هارليك حذرةً يحاول تبين حالتها المزاجية، لكن عندما ابتسمت باعتذارٍ تنهد براحة واتسعت ابتسامته وقال: "لقد عادت لطبيعتها!".

انفجروا ضحكًا بينما شعرت جلنار بالخجل الشديد يتحكم بها، أخذت نفسًا وقالت: "أعتذر بجدٍ لما بدر مني، من من حقكم الشعور بالانزعاج من تصرفاتي؛ لذلك... أنا حقًا آسفة".

أخفضت رأسها باعتذارٍ ليهتز جسدها عندما ضربت ثونار ظهرها وقالت مازحة: "لمَ الاعتذار؟ أتذكر أول شجارٍ نشب بيني والأحمق أوكتيفيان، لقد كدت أحرق المنزل كاملًا". أومأ الجميع متفقًا ليتقدم أغدراسيل ويبعثر شعرها ممازحًا ويقول: "جميعنا تملكته نوبة غضبٍ سيئة، أهلًا بك في المجموعة، لا يمكنك التبجح بعد اليوم بأنك أفضل منا".

 ابتسمت ممتنة لهما قبل أن تقع عينها على جوزفين الذي تقدم مربتًا على كتفها "في المرة القادمة تذكري كتف أغدراسيل عوضًا عني، أظن أنه سيتلقى الدفعة بشكلٍ أفضل". ارتفاع حاجب أغدراسيل تسبب في ضحكهم، لكن ظلت جلنار تشعر بالأسف الشديد خاصةً ناحية جوزفين؛ لذلك قالت: "كان تصرفًا فظًا مني، أعتذر للتسبب بأذيتك".

التفت ذراعه حول عنقها وضحك بمرحٍ معتاد قائلًا: "لا داعٍ لهذه الرسمية بحق الله، كما أن دفعةً كتلك لن تؤذِي فارسًا قويًا مثلي". اتسعت ابتسامتها وهي تشعر ببعض الراحة للطريقة التي يتصرف بها الجميع؛ لذلك قررت التوقف عن الاعتذار ومجاراة الأجواء حتى لا يشعر أحدهم بالغرابة.

حاول أغدراسيل تغيير الموضوع إلى ما هو أهم وقال: "بينما كنتِ تستجمعين نفسكِ، نحن استجمعنا الأمور هنا". أشار بيده للجميع خلفه الذين وقفوا باعتزازٍ بعملهم لتبدل جلنار نظراتٍ متعجبة بينهم "ماذا تعني؟".

أخذ نفسًا وعقب قائلا: "لقد وضعنا خطةً للخروج من هذه الأزمة". في الواقع كل ما كانت جلنار بحاجته هو خطة جيدة، أو حتى خطة تفي بالغرض؛ لذلك ارتفع حاجباها ونظرت لأغدراسيل بفضولٍ ليكمل: "لا يمكننا الكذب بعد الآن، سنخبر الحقيقة للجميع".

كان من السهل ملاحظة الدهشة التي ارتسمت على وجهها؛ لذلك أسرع في الإكمال قبل أن تعترض: "أسرارنا هي نقطة قوةٍ في يد النبلاء، كلما زاد زمن الكذبة كان وقع الحقيقة أثقل على الجميع، يمكننا قلب الأمور في صالحنا، الخروج أمام الجميع والاعتراف بحقيقة وجودك سيحرق الورقة التي يراهن عليها النبلاء، كما أن...".

صمت لثوانٍ لكنه حسم قراره وقال: "من حق الجميع معرفة من يقوم بحمايتهم، من حقك أن تحمي الجميع كجلنار البشرية، لا فتاة مجهولة الهوية".

حركت جلنار رأسها للجانبين بخفةٍ رافضةُ ما سمعت "أجننتم؟ أتريد بث الحقيقة في أرجاء المملكة كاملةً في وقتٍ كهذا؟ أتعلم أي فوضى قد نبدأها؟".

نظر أغدراسيل للبقية قبل أن يقول: "في الواقع، نريد بثها في كل مكان، ليس فقط المملكة، بل في جميع الممالك". تجمدت  لثواني قبل أن تصيح به: "ما الذي... أتريد أن يسود الجنون بين الجميع؟". وضع يده فوق كتفيها لتهدئتها وقال: "لن يحدث، جلنار! إنهم يستمعون لكِ لسبب، لقد كانوا يستمعون عندما كنتِ من سكان الحدود، ما الفرق إن أصبحتِ بشرية؟ ما زلتِ الشخص ذاته الذي يمكنه التأثير على الجميع! جلنار، إن لم يؤمن الجميع بهذه الحرب ومن يقودها فسنخسر أنفًا".

تملكها التوتر بشدةٍ وقد شعرت بحلقها جاف. "جلنار، لقد كنت بين سكان الحدود طيلة اليوم أستمع لما يقولون عن الأمر، الجميع غاضبٌ ومحتار، لكن ليس منكِ، بل بشأن كذب الجميع، يحتاجون لتوضيحٍ منكِ، الشخص الذي وثقوا به"

تدخلت واندر في محاولةٍ أخيرة لإقناعها بالأمر ووجدت جلنار نفسها تحاول تقييم الأمر من كل جهةٍ ممكنة، وفي النهاية وجدت مانعها الوحيد هو الخوف.

ماذا لو

كانت تلك الكلمتان تثيران فزعها بشدة، لا شيء سيسير دائمًا وفق الخطة، ماذا لو كان الأمر مختلفًا وردود الفعل مختلفة؟ ماذا لو لم يتقبل الآخرون حقيقتها؟ ماذا لو زادت فعلتهم الأمر سوء؟

الكثير من المخاوف والأسئلة كانت تمنعها من الكلام في هذه الثانية.

يد أغدراسيل التي أمسكت كف يدها انتشلتها من تلك الأصوات التي تصرخ داخل رأسها بأمورٍ تثير الهلع، ابتسم نحوها بثقة ونظر لعينيها قائلًا: "جميعنا نثق بكِ، أنا أثق بكِ، وإن ساءت الأمور سنكون هنا للوقوف معكِ".

نظرت نحوه بترددٍ قبل أن تنظر ليده التي تحاوط كفي يدها برقة.

كان أغدراسيل قريبًا منها كفاية ليشعر أحدهم بالانزعاج وهو يراقب الأمر، عينه كانت ثابتةً على يده التي لم تترك يدها حتى الآن ولعن الموقف ولعن الجو والموضوع الأهم هنا وتقدم ليسحب ذراعها.

لم تدرك جلنار أن أتريوس خلفها إلا عندما قام بسحبها ونظر لأغدراسيل ببرود قائلًا: "لمَ لا تصمت قليلًا؟ من عينك متحدثًا رسميًا؟".

أرادت جلنار الصراخ في وجهه قائلة: "أهذا الوقت المناسب حقًا؟" لكن أغدراسيل لم يترك فرصةً لها لأنه أخذ نفسًا قويًا وقال: "أتظن أن الجميع يملك وقتًا لرغبتك في الشجار كل ثانية؟ توقف عن سحبها في كل مرة". انزعاج أغدراسيل كان واضحًا، وكان إدراكه للأمر مقتصرًا على معرفته بأتريوس ورغبته في الشجار.

الرجل قد وجد الفرصة المناسبة لإزعاجه فاغتنمها لتسلية نفسه، لكنه لم يعلم قدر انزعاج أتريوس في هذه اللحظة وعندما كاد يتقدم نحوه ليسحب جلنار عنادًا وانزعاجًا من طريقة أتريوس في إمساكها ولف ذراعه حول كتفها لم يتمكن من تحريك قدمه.

لم يتمكن من تحريك شيءٍ لأنه تجمد مكانه عندما التقت عينه بنظرة أتريوس، تلك لم تكن هالة شخصٍ يعبث في الأرجاء، تلك النظرة لشخصٍ على أهبة الاستعداد لقتل أحدهم دون يطرف له جفن، لم يكن ليلاحظ أحدهم تلك الهالة سوى الشخص الواقف في وجهه.

ولكن لم تغفل جلنار عن ذلك؛ فقد شعرت بتلك الهالة سابقًا، ولكن لسبب ما تشعر أن أتريوس يفقد تحكمه بها؛ لذلك على الفور وضعت يدها فوق صدره ودفعته برفقٍ وحاولت الابتسام قائلةً بنبرة حاولت إظهار التذمر فيها: "ألن تتوقفا أنتما الاثنان؟ علينا الاهتمام بأمور أهم".

لم يشعر الجميع بأي فرق، فقد كان هذا مشهدًا آخر من أحد الشجارات بين أتريوس وأي فارس آخر؛ لذلك تذمروا ليتوقف الاثنان عن هذه التصرفات.

جلنار كانت تحاول تصنع تلك الملامح حتى لا يدرك الجميع أن الأمر أصبح جديًا فجأة، نظرت لأتريوس بحدةٍ ليزفر ويأخذ خطوةً للخلف بهدوء.

أغدراسيل كان متجمدًا في مكانه عينه لم تنظر سوى لأتريوس، لقد اختفى ذلك الضغط منذ ثوانٍ، لكن من المستحيل إنكاره، ارتعاش يده حتى الآن ليس سوى إثبات لما شعر به في هذه الثانية

وفي هذه اللحظة لم يملك سوى فكرةٍ واحدة في رأسه

هل أتريوس شخص أم وحش؟

لا أحد يملك هذه الهالة والضغط سوى وحشٍ من فئة سحرية عالية

من هو أتريوس حقًا؟

عندما أدرك أنه لم يتحرك ولم ينطق بكلمةٍ لدقيقة وضع يده المرتجفة داخل جيبي سرواله حتى لا يلاحظها أحد وأخذ خطواتٍ للخلف بهدوء.

شخص آخر لم يفته هذا المشهد

كان أرتيانو ينظر ليده التي شعر بها باردة ويتذكر تلك القشعريرة السيئة التي مرت به منذ ثانية

رفع عينه نحو أتريوس بنظرةٍ حذرة ليجد الأخير يبادله نظرةً باردة وقد أدرك أنه لاحظ ما حدث، النظرات بينهما لم يلاحظها أحد، ولكنها كانت تحمل خلف طياتها الكثير.

استلم لافيان دفة الحديث عندما لاحظ أن مزاج أغدراسيل غير مناسب وقال: "لقد تحدثنا مع الأميرة بالفعل ووافقت على الأمر مسبقًا". التفتت نحوه جلنار بدهشةٍ متناسية ما حدث وصاحت: "الأميرة وافقت؟". أومأوا بابتسامة متفاخرة لتشعر جلنار بأن الأمور تنحدر للجدية بالفعل في هذه المرحلة.

"ماذا يضمن لكم أن سكان الحدود سيجتمعون للاستماع لما لدينا؟ كيف سيصدقون شخصًا كان يتظاهر أنه منهم؟" قالت والضيق يشوب نبرتها.

ابتسم كل من ثونار وجوزفين بخبثٍ ونظروا لأغدراسيل ليخبرها بما فعلوه، تنهد وحاول بدوره تناسي الموقف سابقًا حتى لا يصبح الأمر غريبًا، فمن الواضح ألا أحد لاحظ ما شعر به.

حاول وضع ابتسامةٍ وقال: "سيستمعون لشخصٍ منهم، شخص يعرفونه وقادر على الحديث معهم". التفت نحو باب المنزل حيث تركوا إيفولا خارجًا لبعض الوقت، وبدورها لم تمانع الانتظار؛ فقد كان التوتر يحكم أفكارها وقد بدأت تفكر فعليًا في الهرب، ولكن الفضول يثبت قدميها دون حراكٍ تنتظر أذنهم للدخول.

"آنسة لاموفار!" أجفلت عندما سمعت نداء أغدراسيل لتأخذ نفسًا قويًا وتتمتم لنفسها مشجعة: "أنتِ قوية، لا تدعيهم يخدعوك أو يسخروا منكِ".

وضعت تعبيرًا جادًا واستقامت في مشيتها كما علمها والدها دائمًا ودلفت للمنزل.

الجمع الذي كان يحدق بها أشعرها بالفزع وبالكاد تماسكت لئلا يظهر خوفها على تعابيرها، عينها اتجهت للشخص الوحيد الذي تعرفه بينهم والذي ابتسم بلطفٍ معتاد وأشار نحو أحدهم قائلًا: "هذه هي، قائدتنا".

عينها اتجهت مباشرةً نحو جلنار التي وقفت تحدق بإيفولا باستغرابٍ بينما الأخرى تحدق بها بدهشة قبل أن تصرخ بتعبيرٍ أبله: "هذه هي البشرية؟".

شعرت فجأة أنها قتلت الصورة الجادة التي أرادت طبعها في أذهانهم لنفسها، ولكن صمت الجميع ونظراتهم جعلها تبتلع وأدركت أن إشارتها بهذه الطريقة أهانت قائدتهم، ابنة التوبازيوس!

أرادت الركض للخارج بسرعة، ولكنها تجمدت عندما سمعت ضحكات جلنار التي انفجرت في المكان، كان الجميع يحاول كبت ضحكته حتى لا تشعر بالإحراج ولكن جلنار لم تستطع، فقد كانت تشعر بأنها تنظر لمرآة، تتذكر ردود فعلها عندما تقابل شخصًا لا تصدق بوجوده.

 شعرت إيفولا بالإحراج بينما تدفقت الدماء لوجنتيها لتحاول تدارك الأمر قائلة: "أعني مرحبًا". حاولت جلنار إيقاف ضحكها وقالت: "أهلًا بكِ".

عندما وقف أغدراسيل بجوارها همست نحوه بصوتٍ سمعه الجميع: "إنها تبدو تمامًا مثلنا! كنت أظن البشر يملكون شكلًا مختلفًا". ابتسمت جلنار ولم تحاول قول شيءٍ حتى لا تحرجها أكثر من هذا.

"لمَ لا تعرفين نفسكِ؟" قال أغدراسيل لتنظر نحو جلنار بتوترٍ حاولت إخفاءه وقالت برأسٍ مرفوع: "إيفولا ديكاري لاموفار، من مقاطعة جونري". أومأت جلنار بابتسامة وقالت: "أنا جلنار روسيل، بشرية، يبدو أنكِ على معرفةٍ مسبقة".

أومأت إيفولا بحماس، لكنها أبقت على جديتها وقالت: "الفارس أغدراسيل أراد مساعدتي في إقناع الآخرين للاستماع لكم، وبما أني أملك مهارات جيدة بالتحدث والإقناع وسمعة عائلتنا معروفة في جميع المقاطعات لكوننا تجار منذ وقتٍ بعيد فيمكن أن أكون عونًا لكم".

شعرت جلنار ببعض الارتياح؛ لذلك قالت بصدق: "تلك خدمة سأكون ممتنةً لها، أعني أن إخبار الجميع بالحقيقة ليس بالأمر الهين، ولكن إقناعهم بالاستماع أولًا هو أصعب بالنسبة لي". على رغم من أن شخصية جلنار بدت ودودةً جدًا بعكس توقعات إيفولا فقد تمسكت بصرامتها وكتفت ذراعيها قائلةً بثبات: "لكن عليكِ إقناعي أولًا".

بدت جلنار مشوشةً لتوضح إيفولا: "لن أعرض الأشخاص الذين أحبهم للخداع، علي أن أقتنع أنكِ بالفعل ستساعديننا، وأنكم يا رفاق لستم إحدى ألعاب النبلاء التي لا تنتهي".

صمتت جلنار لوهلةٍ تحاول إيجاد شيءٍ جيد يدفع هذه الشابة لتثق بها، ولكنها لم تستطع تجميع جملة كاملة، تنهدت وقالت: "لا يمكنني إيجاد ما أقنعكِ به، أنتم يا رفاق تملكون الحق كاملًا في عدم الثقة بأحد، لا يمكنني تخيل ما مررتم به ولكن...".

حدقت بعيني إيفولا بصدقٍ ونظرة تملكها الغضب مجددًا "يمكنني إخباركِ بمدى غضبي، البقاء بينكم كان يثبت لي يومًا بعد يومٍ أنكم لا تستحقون ما يحدث لكم، لقد أخذت عهدًا على نفسي بإنهاء عصر النبلاء وإن كلفني هذا حياتي... لم أكن أملك القوة لتغيير شيءٍ في حياتي سابقًا، ولكن الآن الآن فقط يمكنني تغير الفساد عندما أراه، لا يمكنني السكوت على هذا، لقد جئت إلى هنا لمهمةٍ واحدة وهي إنهاء الظلام، الظلام يشمل النبلاء أيضًا، أنا لست فارسة النبلاء وكذلك هم... نحن كُلفنا بحماية الجميع وسنبذل قصارى جهدنا لإنهاء هذه المهمة، حتى وإن لم يؤمن بي أحد وإن لم يثق بي أحد، سأفعل الأمر الصحيح طالما يمكنني التنفس".

الغضب، القوة والثقة التي كانت في نظرتها دفعت جسد إيفولا للارتجاف! تلك الهالة القوية والنبرة التي لم تهتز لثانية، لطالما سمعت عن الأبطال في الحكايات ولكن أن ترى واحدًا أمامها قد جعل قلبها ينبض بقوة.

نظرة الجميع الواثقة بعد حديث جلنار كانت تقول الشيء ذاته، لن يترددوا في تحقيق مهمتهم حتى نهايتها... من المستحيل أن يكون هؤلاء الأشخاص يعملون لصالح النبلاء حتى من بعيد.

كيف بحق الجحيم صدق سكان الحدود هذه الكذبة؟

وضعت جلنار يدها على كتف إيفولا وقالت بابتسامة: "لم يعد مهمًا إن صدقني الجميع، يكفي أن تقنعيهم بالقتال ليبقوا على قيد الحياة فقط".

كانت إيفولا في هذه اللحظة تنظر لجلنار بدهشةٍ وإعجاب شديدين، هذا هو ما كان يقصده والدها عندما قال لها ذات مرة: "أريد منكِ أن تصبحِي امرأةً تنحي الرؤوس احترامًا لها!".

هذه هي المرأة التي تريد أن تصبح عليها عندما تكبر، قوية، واثقة، لا تشعر أن الخطر موجودٌ بوجودها.

نظرت لجلنار بعزم وقالت: "سأقنع الجميع". الدهشة ارتسمت على وجوههم، ولكنها تابعت: "سأتحدث بقدر ما يمكنني وسأجعل الجميع موجودًا أمام المنصة للاستماع لكم، أيها الفرسان، لذلك...".

نظرت لهم جميعًا وقالت: "لا تخيبوا ظننا، وانتصروا في هذه الحرب".

نظرت لها جلنار بامتنانٍ وأومأت شاكرةً لتشعر إيفولا بثقةٍ وإطراء شديدين والحماس ارتفع داخلها بقوة لتركض للخارج قائلة: "سأبد من اليوم، لن أفشل في هذا؛ لذلك لا تفشلوا أنتم أيضًا!".

لوحت وخرجت من المكان مخلفةً الهدوء بعدها. "هذه الفتاة تعرف طريق العودة، صحيح؟" سأل زوندي وهو ينظر لوجوههم التي أظهرت النفي.

"سألحق بها قبل أن يسبب حماسها في قتلها" قالت واندر وخرجت خلف إيفولا لترشدها لطريق العودة.

كتفت جلنار ذراعيها بابتسامةٍ وقالت لأغدراسيل: "أين وجدت هذه الفتاة؟". رفع كتفيه وقال: "هي من وجدتني في الحقيقة".

كادت تقول شيئًا، ولكن قاطعها صوت الباب الذي فُتحَ مجددًا ولكن هذه المرة كان يقف خلفه أوكتيفيان!

وحينها فقط لاحظت جلنار أنه لم يكن موجودًا منذ البداية، وقف ينظر للجميع قبل أن تقع عيناه على جلنار ويقول: "تبدين بخير!". أومأت وقالت "أفضل بكثيرٍ من الأمس". نظر نحوها لوهلة دون أن يتحدث قبل أن يقول: "إذًا أعصابكِ متماسكة ولن تقومي بقتل أحدٍ في حالة الغضب؟".

طرفت بتعجب وكادت تجيب لولا الصوت الذي جاء من خلف أوكتيفيان قائلًا: "يا رجل، لا تبالغ" وتقدم إيراكوس بابتسامته الجانبية المعتادة للداخل.

"صباح الخير، جميـ" توقفت الكلمات بحلقه عندما رأى نظرة جلنار الموجهة نحوه، كانت بلا شكٍ تستعد لتحويله لغداء مطبوخ؛ لذلك تراجع بسرعةٍ واقفًا خلف أوكتيفيان وقال: "لا بأس، يمكنك أنت تولي الموضوع بطريقتك".

"جلنار، لـ..." قاطعت أوكتيفيان قائلة: "أعطِني سببًا واحدًا يمنعني من قتلك حالًا". زفر إيراكوس وفرد ذراعيه قائلًا: "أنني هنا!".

عندما رأى تعبيرها الذي يدل على أنها لا تملك مزاجًا للمزاح وضح: "لو كنت مذنبًا لحاولت الهرب أو الاختباء عوضًا عن قدومي هنا بقدمي". كتفت جلنار ذراعيها وقالت: "وما أدراني أن أوكتيفيان لم يجبرك على المجيء؟ أو أن هذه خدعةٌ لعينة من ألفن لأثق بك مجددًا؟".

نظر إيراكوس لأوكتيفيان ليقول الأخير: "أنا لم أجبره على المجيء، جلنار، لقد فعل هذا بنفسه، كما أنه لم يكن مختبئًا..."نظر أوكتيفيان بطرف عينه لإيراكوس وبدا وكأنه يشتعل غيظًا، ولكنه كتم ذلك وقال: "يملك مقرًا أكبر من الذي كنت أقابله فيه وكان يخفِي الأمر عني".

ابتسم إيراكوس ببلاهةٍ وقال: "ماذا؟ لا يمكنني المخاطرة بسرية كل مكانٍ أملكه في حال تم تعذيبك للاعتراف بمكاني". زفر أوكتيفيان بإهراق؛ فقد استغرق الأمر وقتًا حتى تمكن من إيجاد إيراكوس، لكنه في نهاية ظهر وحده.

"استمعي لي" قال إيراكوس بجدية، ثم تقدم نحوها قائلًا: "ألا تظنين أن بإمكان النبلاء بسهولةٍ تزييف منشورٍ كمنشوراتِي؟ ألا ترين مكاسبهم من الموضوع؟ من جهة: إنهم على يقين أنكِ والفرسان ستنكرون حقيقة أصلك؛ لذلك فعلتهم ما هي إلا تحذير واضح وإعلان صريح بإنهم يمسكون بيدك المتضررة". رفع كف يده الآخر وأردف: " ومن جهةٍ أخرى: يبدو أن مخاوفهم من تعاوننا دفعتهم للإيقاع بي حتى قبل أن يدركوا أننا معًا، أي بصريح العبارة أردوا منك أنتِ خاصةً ألا تثقِي بشخصٍ كـ إي".

أشار لنفسه في النهاية ولوهلةٍ بدا بالفعل استنتاجه معقولًا، ربما لا يعلم النبلاء بتعاونها مع إي، ولكنهم ليسوا أغبياء، بإمكانهم التفكير بتعاونهم كاحتمالٍ وارد.

أخرج إيراكوس من جيبه ورقةً مطوية كدليله الأخير، ثم اتجه نحو الطاولة ووضع بقوةٍ المنشور الذي تم إسقاطه يوم الأمس وقال: "انظري إلى هذا، إنها مزيفةٌ بالكامل، انظري للشعار هنا..." ثم وضع ورقةً أصلية من منشوراته وقال: "والشعار هنا".

لم يكن هناك اختلاف بين الشعارين، بل كانا متطابقين بالكامل، ولكن من يدقق جيدًا يمكنه أن يلاحظ شيئًا مختلفًا بكل تأكيد، أشار إيراكوس إلى الاختلاف وقال: "الشعار الأصلي يملك فيه طائر العنقاء أربع علاماتٍ على أجنحته، اثنان على كل جناح، ولكن هنا..." أشار للشعار المزيف وقال: "الحمقى وضعوا ست علامات! إنهم حتى لا يعرفون المعنى من الشعار".

اتسعت عينا جلنار وهي تدرك الأمر "أربع علاماتٍ لأربع عائلات، هذا منطقي". أخذت جلنار أحد الأوراق من مجلد أرتيانو والذي كان الشعار ذاته مرسومٌ عليها بأربع علامات، لا ست.

"صدقتني الآن؟ أعني حتى بدون النظر للشعار كيف يمكنكِ تصديق شيء كهذا؟ هذا بالكامل إهانةٌ لي، انظري للطريقة التي كتبوا بها المنشور! على الشعب أن يعرف الحقيقة، حيث البشر موجودون؟ بحقكم يا رفاق! هذه إهانة لأسلوبي الرائع، إنهم يظهرونني في مظهر الأخرق، من يخاطب الشعب بهذه الطريقة؟"

ضرب الطاولة بيده وقال بغيظٍ درامي: "الملاعين، هذا تشويه لسمعتي وتعدٍ واضح على حقوقي الفكرية، سأقاضيهم".

توقف لثوانٍ وصنع تعبيرًا بريئًا ونظر لجلنار قائلًا: "أنتِ تصدقينني، صحيح؟". نظرت نحوه جلنار لفترة، كل ما أمامها يثبت الأمر بالفعل، ولكن يمكن لكل هذا أن تكون مجرد خطة!

هل تثق بإيراكوس؟ تحتاج لدفعة أمانٍ أخيرة، فالشعور بالغدر لم يكن أفضل شعور يمكن تجربته.

"جــــلــنار! إي ذاك ليس خائنًا!" الصرخة التي اقتحمت المكان تبعها يوجين يهبط بقوةٍ فوق الأرض بعد أن مر من خلال الجدار وبدأ الحديث دون توقفٍ بحماس

"لن تصدقي ما حدث، لن تصدقي على الإطلاق! قررت التلصص على قصر ألفن اللعين، ولكني ظللت طيلة اليوم تائهًا في المملكة كلها حتى تمكنت من الوصول له، لقد كان يتحدث مع جلين اللعين، خطط لكل شيءٍ حتى يجد وقتًا ويستعيد فيه ما تم أخذه منه، أراد أن يشغلكِ مع الفرسان وقرر ضرب عصفورين بحجرٍ واحد، سيجعل الأمر وكأن إي يعمل معهم، فتبدئين في البحث عن إي الذي فضح هويتكِ بينما يهرب إي منكِ حتى لا تقتليه، وهكذا ستنشغل عنه الأنظار لوهلة، لقد خطط لكل شيء!"

توقف ليلتقط أنفاسه قبل أن يتذمر ويقول: "لقد خفت ألا أتمكن من العودة في الوقت المناسب، هذه المملكة متاهةٌ معقدة".

"جلنار" التفتت حيث نادها إيراكوس باستغراب؛ فقد استغرق صمتها وقتًا، ولكنه تفاجأ عندما رأى ابتسامتها الجانبية، وضعت يدها على كتفه وقالت: "أهلًا بك في الفريق مجددًا".

كان منذهلًا؛ فقد ظن أنها ستأخذ وقت أطول لتصديقه ولكنها فعلت بعد دقيتين من الصمت!

تنهد أوكتيفيان بارتياح لأن هذه المعضلة قد تم حلها قبل أن يتفاقم الوضع أكثر من هذا، التفت إيراكوس إلى باقي الفرسان وقال: "إيراكوس بالمناسبة".

"ما الخطة؟" سأل أوكتيفيان وهو يقف بجوار جلنار التي كانت تنظر بعيدًا لثوانٍ تفكر في الكثير من الأشياء، التفتت نحو أوكتيفيان وقالت: "الحقيقة هي الخطة". نظرت للجميع وقالت: "سأنفذ ما خططتم له، غدًا سيعرف الجميع الحقيقة، جميع الفرسان سيقسمون أمام الممالك كلها بإنهاء هذه المحنة...".

التفتت لإيراكوس مبتسمةً بمكر وقالت: "وسنستغل خطة ألفن ضده". اتسعت ابتسامة إيراكوس عندما فهم ما ترمي إليه وقال: "رائع! كم أريد رؤية وجهه".

"وكيف بالضبط سنفعل هذا؟" سؤال زوندي دفعها للابتسام باستمتاعٍ والتفسير قائلة: "علينا التصرف وكأن تلك المنشورات كانت من فعلنا، لا فعلهم، أن تأتِي الحقيقة من أفواهنا أفضل من أن تظهر كفضيحة؛ لذلك سندفع الجميع لظن أن إلقاء المنشورات ليس إلا فكرتنا نحن الفرسان، لأن الفرسان يريدون للحقيقة أن تظهر أمام الشعب أجمع، الفرسان والسيد الغامض إي يقفون ضد النبلاء، ولكن…".

التفتت نحو أوكتيفيان قائلة: "ما زالت حقيقة تعاوننا مع إي يجب أن تبقى مخفية، تبدو كورقةٍ ستحترق قريبًا، لكن ليس الآن؛ لذلك دورك هو الحفاظ على ذهذه الورقه مخفية". أومأ أوكتيفيان وقال بما هو أشبه بتأكيدٍ لا سؤال: "أي علي تعزيز فكرة أن الفرسان وإي لا يملكون صلة".

أومأت جلنار باستحسان وفرقعت أصابعها مشيرة نحوه "بالضبط، ربما يبدو حديثنا أمام الشعب وكأننا نتعاون معًا، لكن على النبلاء خاصةً التأكد من أننا لا نعرف من هو إي وما زلنا نبحث عنه وما زالنا نظن أن هذه..." أمسكت المنشور المزيف فوق الطاولة وتابعت: "من فعل إي".

بدا الجميع موفقًا وبدأ لافيان يقترح أفكاره الخاصة، وقد شاركه كلٌ من زوندي وأغدراسيل بحماس، بينما يراقبهم أرتيانو بابتسامةٍ جانبية وقد فكر لثوانِ...

هاهم مجددًا، يعودون للعبة

على الرغم من أنه كان بالفعل يؤمن أن هذا الفريق لا فائدة منه بالبداية فقد انقلب الأمر بالكامل، التغير الذي حدث في خلال هذه الشهور كان كفيلًا بإثبات العكس

لكن القادم مجهول، والحرب ضد المجهول مميتةٌ أكثر من كونها مربحة.

.... 

لم ترغب جلنار في إضاعة المزيد من الوقت؛ لذلك استدعت كارولوس على الفور ليتجه كلاهما نحو القصر العظيم.

أصبح من المعروف أن فارسًا يمتطي تنين شفق مسموحٌ له بالهبوط على الأراضِي الملكية ولم يكن من الصعب إبلاغ الأميرة بوصول جلنار والتي لم تتوقع بدورها أن تلبي طلب الزيارة بهذه اللسرعة.

جلست الاثنتان داخل مكتب الأميرة والذي لم تعدت جلنار مقابلة الأميرة فيه، أما الأخيرة حدقت في جلنار بينما تتذكر تعبير لافيان الذي لم ينم أبدًا عن حالة جلنار الحالية، مفعمةٌ بالنشاط وبعض الحماس المصحوب بالتوتر.

عرفت جلنار أن عليها بدء المحادثة بشكلٍ ما؛ لذلك أخذت نفسًا قويًا وبدأت حديثها باعتذارٍ صريح: "أعلم أن ما أسببه من متاعب لا يتوافق مع وعودي التي قطعتها لكِ، لا بد من أنني سببت لك الكثير من المصاعب". تنهدت الأميرة وأراحت ظهرها للكرسي بهدوء "المصاعب دائمًا موجودة، أتساءل كيف كان لأبي أن يملك المقدرة على الحكم بتلك الطريقة؟".

صمتت جلنار لوهلةٍ احترامًا لحزن الأميرة عندما ذكرت والدها المفقود حتى هذه اللحظة.

"كيف تجري الأمور؟ " حاولت الأميرة تغيير الموضوع وسألت بجديةٍ لتقول جلنار: "متشابكةٌ هو الوصف الأقرب لها". أومأت الأميرة بتفهم وقالت: "زارني كلا فارسيكِ يوم الأمس". أشارت للافيان ورومياس مما سهل الأمر على جلنار..

"إذًا لا بد من أن كلاهما اقترحا ما يجب فعله" أومأت الأميرة كإجابةٍ لتردف جلنار: "ولقد تفاجئت من موافقتكِ".

ضحكت الأميرة قبل أن تقول: "في الواقع أنا أيضًا تفاجئت، ولكن... الثقة التي يضعها هؤلاء الفرسان بك دفعتني للموافقة والثقة بكِ أيضًا، أعلم أن الأمور ستكون فوضوية بعد هذا الإعلان، ولكن يبدو أننا أخرنا المحتوم أكثر مما يجب".

لم تحاول جلنار نفي أي مما قالته؛ فقد كان صحيحًا بالكامل، الأمر لا ينطبق على مملكة الإلترانيوس فقط، إنما الممالك كلها ستجد بثًا مجنونًا وغير متوقع؛ لذلك على جلنار تحمل المسؤولية.

"تعلمين أن بعد هذا البث سيكون هناك اجتماعٌ ضروري، ولكن هذه المرة بين ملوك الممالك، ويجب عليك أن تكوني حاضرة" قالت الأميرة مما دفع صورةً أولية داخل رأس جلنار عن كيف سيكون ذلك الاجتماع، بل كيف سيبدو الملوك.

لكنها أومأت بتفهمٍ وقالت: "أعلم هذا، بل أن هذا هو المقصود، نحتاج أكبر دعمٍ ممكن لنعرف بالضبط أين تقع مملكة الإريبوس وكيف تمكنوا من الوصول إلى هنا".

صمتت الأميرة لثوانٍ وبدت مترددة، ولكنها حسمت أمرها وقررت إخبار جلنار "في الواقع، منذ مدةٍ ليست بطويلة هجومٌ آخر للإريبوس حدث، ولكن ليس هنا...". عقدت جلنار حاجبها باستغراب قبل أن تردف الأميرة: "في مملكة المتنكرين".

اتسعت عينا جلنار وقالت: "متى حدث هذا؟". أعادت الأميرة ظهرها ليستند فوق الكرسي وقالت بتعبير متهكم: "يومان قبل يوم المعركة التي جرت هنا، وقد جاء ملك المتنكرين بنفسه عندما أدرك أن هذه المشكلة لم تعد تخص الإلترانيوس فقط، إنما بدأت تشمل الممالك الأخرى".

شعرت جلنار بالقلق وبدأت تفكر كيف لها أن تهاجم عدوًا غير مرأي؟ يمكن للإريبوس الوصول للمملكة التي يريدونها، ولكن في المقابل لم يتمكن الفرسان حتى الآن من إيجاد ثغرةٍ تدل على مكانهم في هذا الكون.

"لا ترهقي نفسكِ في التفكير، عوضًا عن هذا عليكِ أن تتدربي على حديثٍ مقنع عندما يأتِي الملوك إلى هنا حتى يضموا قواتهم للفرسان"

أومأت جلنار دون تعقيبٍ قبل أن تتذكر شيئًا وتقول: "ملكة الساحرات كانت أيضًا تريد الحديث معي بعد المعركة، هل يمكن أن...". لم تبدِ الأميرة أي تعبير يدل على نفي الأمر وقالت: "ليس مستبعدًا أن هجومًا حدث في مملكة الماجي أيضًا، هذا يعني أن قوى الظلام أصبحت أقوى بكثير مما نظن وإن تكاسلنا فنهايتنا ستكون محتومة".

على هذا المعدل

شعرت جلنار بالهلع وقد عادت صورةٌ لرأسها فجأة

صورةٌ لشارع مانشستر المدمر والقبور التي تملأ المكان كله. الكواكب كلها متصلة برابط رفيع وخفي، وما يحدث في المملكة الأم سيحدث لممالك كلها، إن سقطت الإلترانيوس سقط كل شيءٍ آخر.

كانت مطمئنةً أن الأرض بعيدة المنال منذ أن تم قطع السبل إليها، ولكن ماذا إن كان هناك شيء خفي ما زال يربط الأرض بهذه الممالك؟

ماذا إن كان هذا الرابط الخفي لا يمكن قطعه وهو سبب نجاح نقلها إلى هنا؟ إن كانت كل السبل قطعت للأرض إذًا كيف تمكنت من المجيء إلى هنا؟ وكيف تمكنت ثونار من نقل روحها لجسد بشريةٍ من الأساس؟

"جلنار! هل أنتِ بخير؟" أجفلت لصوت الأميرة الذي قطع تلك الأفكار السوداوية لتأخذ نفسًا وتقول: "أنا بخير".

حاولت التركيز وقالت: "أعلم أننا نتحرك بسرعةٍ وببعض التهور مؤخرًا، لكن". رفعت عينيها تنظر لأعين الأميرة بجدية "تحركنا بهذه الطريقة لن يحدث إلا لإيماننا بأنك تقفين خلف ما نفعل، وتثقين به، أعرف تمام المعرفة أنها مملكتك ولـ...".

قاطعتها الأميرة قائلة: "لا تقلقِي، أجل، ربما يقع على عاتقي تنظيف بعض الفوضى التي تخلفها أفعال الفرسان، لكن نوعًا ما أنا أرى تغيرًا لم ألحظه على هذه المملكة منذ عقود وهذا كله بفضلكم، كل ما أطلبه هو إخطاري بخطواتكم القادمة قدر الإمكان؛ فقد تكونين أقوى مني كفارسةٍ ولكن...". ابتسمت مشاكسة وقالت: "ما زالت مهاراتي الدبلوماسية أفضل منك يا ابنة التوبازيوس، وعليك الاعتماد علي في هذا".

ابتسمت جلنار وأومأت متفقة، ولكن لم يكن من الصعب ملاحظة تشتتها ومحاولة تمالك نفسها؛ لذلك قررت الأميرة إنهاء لقائهما هنا دون تشكيل أي ضغطٍ عليها وقالت: "بما أن كلتينا متفقتان فلديك أمور أكثر أهمية للاعتناء بها، واعطي بعض الانتباه لسوارك؛ فهو وسيلة استدعائي لك".

تنهدت جلنار وقد شعرت بالمتنان لإنهاء الأمر هنا؛ فلا يمكنها التركيز أكثر من هذا.

لم يكن من الصعب على الأميرة التخمين ما كانت جلنار تفكر فيه، التعبير على وجهها كان ينم عن الخوف على شيءٍ واحد

العائلة!

الأفكار التي خالجت جلنار للتو كانت تخالج الأميرة منذ فترةٍ طويلة، ولكنها فضلت كتمانها الأرض لم تنقطع تمامًا عن باقي المجموعة، وإن عرف الإريبوس عنها شيئًا فهذا يعني أنهم هالكون، إنهم الأضعف في السلسلة

حتى وإن أثبتت جلنار قوتها كبشرية فقد أثبتتها بعد تدريبٍ دام لشهر أو أكثر، ولأنها موسومةٌ كابنة التوبازيوس.

إن كان على أحدهم الصلاة فعليه الصلاة من أجل الأرض

وعلى جلنار فعل ما بوسعها حتى لا يعم الظلام وطنها.

.... 

في طريق جلنار للعودة كان هناك شيءٌ واحد يدور في خلدها، عليها أن تتصدى لأي يكن ما سيحدث هنا قبل أن يصل للأرض، ولفعل هذا عليها أن تصبح أقوى.

اتقانها للعناصر ليس شيئًا يمكنها صد ملك الظلام به، لقد تم سحقها كليًا من قبل جانغو والذي كما فهمت من حديث ثونار سابقًا عن الشياطين الثلاثة ليس الأقوى بينهم.

ماذا إن قابلت الأقوى؟ بل ماذا إن وجدت نفسها وجهًا لوجهٍ مع ملك الظلام؟

ما زالت تتذكر ذلك اليوم الذي وصلت فيه للإلترانيوس وقد كانت تهرب داخل قصر جلين من الحرس، كان هناك مكانٌ واحد دفع الرعب لقلبها، ممرٌ مظلم لم تفكر حتى في النظر لداخله والتفتت لممرٍ آخر.

لم تفكر في الأمر كثيرًا وقتها؛ فكل شيء كان مرعبًا بالنسبة لها ولكنها الآن تذكر هذا الشعور، أيًا يكن الشخص الذي كان داخل ذلك الممر فلم يكن شخصًا هي ندٌ له في حالتها هذه.

عندما دلفت للمنزل أشارت ليوجين بعينها حتى يتبعها وأخبرت الجميع أنها ستتغيب لمدةٍ بعد أن أخذت حقيبتها.

تبعها يوجين للخارج وهو يشعر بتحسن بعد أن لاحظ أن جلنار التي كادت تقتل الجميع يوم الأمس قد اختفت الآن.

"إلى أين نحن ذاهبان؟" سألها بينما يجاري خطواتها فأجابت: "ألا تريد أن تعرف ما يوجد داخل ذلك الكتاب؟". اتسعت عينا يوجين قبل أن يصرخ بحماس: "اللعنة! كدت أنسى هذا الكتاب، أسنفتحه اليوم؟".

أومأت جلنار بابتسامةٍ ذات عزيمة وقالت: "يكفي تكاسلًا، لقد مضى الكثير من الوقت منذ آخر تدريبٍ جدي، بقوتي هذه لن أصمد لمعركةٍ أخرى، علي أن أصبح أقوى" وقد أومأ يوجين متفقًا معها.

عندما وصل الاثنان لمكانٍ بعيد عن المنزل كفاية وشاسع يمكنها التدرب فيه براحة جلست فوق إحدى الصخور الضخمة وأخرجت الكتاب واللفافة من داخل الحقيبة.

"هل أنت مستعد؟" سألت يوجين ليقول: "ابدئي باللفافة!". نظرت جلنار للكتاب الذي كان بلا عنوانٍ يحمل الكثير من الزخارف وفي منتصفه كانت هناك منطقة غائرة للداخل وكأن قطعةً ما مفقودة ويجب وضعها مكانها في منتصف المكان.

نظرت جلنار للفافة التي حافظت على متانتها وجودتها، حولها شريطٌ أحمر أغلق بعناية بحجرٍ أصفر اللون مدبب.

نزعت جلنار الحجر لينساب الشريط ويقع فوق قدمها، أخذت نفسًا ونظرت ليوجين الذي أومأ بتشجيع لتفتحها.

فتحت اللفافة ونظرت نحوها هي ويوجين بتوترٍ وحماس كبيرين.

كانت أطرافها مزخرفةً باللون الأحمر وبخطٍ عريض بلغة البشر العادية كُتب عنوان النص لتقرأه جلنار بصوتٍ واضح: "إرشادات البوابة!". تبادلت هي ويوجين نظراتٍ سريعة ومتعجبة.

كانت تحوي فقراتٍ مرقمة لتبدأ جلنار قراءتها بالترتيب:

"واحد: المتدرب مسؤولٌ عن أي ضررٍ يتلقاه في أثناء التدريب داخل البوابة.

 اثنان: لا يمكن لأي شخصٍ المرور عبر البوابة إلا إذا كان يملك قوةً روحية وسحرية عالية فيتمكن جسده من تحمل الضغط الناتج عن السحر الموجود داخل البوابة.

 ثلاثة: الوقت داخل البوابة يختلف عن الوقت في العالم الطبيعي، يوم داخل البوابة يساوي أربع ساعات في العالم العادي.

أربعة: يسمح للمتدرب الدخول بالأسلحة والأدوات التي قد تساعده في التدريب والإمدادات الكافية للأيام التي قد يقضيها داخل البوابة.

خمسة: لن يسمح للمتدرب الخروج من البوابة إلا بعد إتمام جميع المهام الموكلة إليه مهما كانت المدة التي سيستغرقها لإنهائها.

ستة: البوابة تعمل على رفع مستوى المتدرب من جميع النواحي، وفي كل مرة ينهي فيها المتدرب مهمةً جديدة ترتفع خبرته وقوته الجسدية والروحية، كما أنه قابل لاكتساب قوةٍ مختلفة كلما كان جسده أكثر تقبلًا للأساليب القتالية.

سبعة: إن لم ينهِ المتدرب مهامه فلن يتمكن من فتح البوابة مجددًا، وإن مات داخل البوابة فلن يتمكن أحد من إخراج جثته.

ثمانية: عند عبور المتدرب البوابة يتم قياس مهاراته وأساليبه في القتال وقدراته على التحمل وحدوده التي قد يصل لها وعلى هذا الصعيد يوضع لكل متدربٍ برنامجٌ يناسبه ليصبح أفضل.

تسعة: لا يمكن لأي من الكيانات التي داخل البوابة الخروج للعالم العادي تحت أي ظرف، وإن حاولت المرور من خلال البوابة يتم تدميرها تلقائيًا.

عشرة: لتفعيل البوابة احتفظ بالحجر وكتاب التعليمات، لفتح البوابة ضع الحجر بمكانه المناسب في الكتاب.

ملاحظة: كتاب التعليمات خارج البوابة لا فائدة منه ولا يمكن استعماله.

تحذير: يخلي الصانع مسؤوليته من أي ضررٍ قد يمس المتدرب أو أي حالةٍ لفقدان الحياة داخل البوابة، منذ دخول المتدرب للبوابة فهو مسؤولٌ عن كل ما يحدث له

حظًا موفقًا"

فترةٌ من الصمت مرت عليهما بعد أن أنهت جلنار قراءة الإرشادات، كلاهما نظر للآخر لمدةٍ قبل أن يصرخ يوجين بحماس: "هذا رائع، رائع جدًا! ألا تشعرين بالفضول؟".

بدلت جلنار نظرها بين التحذيرات والكتاب قبل أن تمسك به وتقوم بفتحه، كانت صفحاته بيضاء تمامًا خالية من أي كتاباتٍ وكان هذا منطقيًا، فالإرشادات واضحة، هذا هو كتاب التعليمات كما يبدو، ولا فائدة منه خارج البوابة.

أي بوابة؟

نظرت جلنار للإرشاد العاشر والذي يشير لكيفية فتح تلك البوابة.

نظرت للشريطة التي كان الحجر مرتبطًا بها، هذا هو الحجر أو مفتاح البوابة.

نظرت للكتاب حيث ذلك الفراغ في المنتصف يناسب تمامًا شكل الحجر، أمسكت به ونظرت ليوجين الذي كان يحترق حماسًا وهتف: "ضعيه، ضعي الحجر!".

أخذت جلنار نفسًا قبل أن تضع الحجر مكانه.

اهتز الكتاب بين يدها قبل أن يندفع ويحلق أمامهما وينبعث من الحجر ضوءٌ أصفر قوي أنشأ حقلًا قويًا من الطاقة الصفراء

أو البوابة.

نهضت جلنار بصدمةٍ تنظر للبوابة الصفراء أمامها، تنتظر منها الدخول، كانت مترددةً حول الأمر ولكن لم يسمح لها يوجين بالتفكير مرتين لأن الأحمق ركض وعبر من خلال البوابة صارخًا بحماس.

"هل تمازحني؟" هتفت جلنار متذمرةً قبل أن تضع ورقة الإرشادات في جيبها وتركض خلف يوجين قبل أن يتسبب لنفسه بالضرر.

ما أن عبرت من خلال البوابة وجدت نفسها داخل مكانٍ أشبه بمعبد قديم ومتهالك، كانت تقف في الساحة الخارجية وحولها أعمدة المعبد المتشققة والمتآكلة.

التفتت خلفها عندما انتبهت لطاقة البوابة وهي تصبح أقل قبل أن تنغلق تمامًا.

"اللعنة يا فتاة، الأمر شبيه بلعبة فيديو!" قال يوجين الذي كان ينظر حوله بذهولٍ قبل أن يصرخ: "أهناك أحد هنا؟" صدى صوته تردد في المكان كإجابةٍ على سؤاله.

انتباه جلنار اتجه للكتاب الذي وجدته يحلق وحده بجوارها ويتبعها أينما تتحرك!

انفتح الكتاب على الصفحة الأولى التي لم تعد بيضاء؛ فقد كان هناك مؤقت كُتب فوقه (الوقت داخل البوابة) وكان يحسب وقت وجود جلنار ويوجين داخل هذا المكان.

حدق كل منهما بالكتاب بدهشةٍ وفضول؛ فقد كانت الصفحة المقابلة ترتسم عليها كلماتٌ بحبر أزرق

كلاهما قرأ المكتوب بصوتٍ واحد: "تم ملاحظة دخول متدربين". 

كانت جلنار تشعر بالدهشة؛ فالأمر أشبه بلعبة فيديو كما وصفها يوجين!

صفحات الكتاب التي انقلبت وحدها دفعتهما للنظر لها وقد كُتب شيءٌ جديد عليها قرأته جلنار بصوتٍ عالٍ:

"مهام اليوم:

-اقتل كائنات الجارفيا باستخدام عنصر الهواء.

-اقتل قائد المعبد هافير.

-احصل على الإكسير الأحمر لرفع قوة تحكمك في عنصر الهواء"

عقدت جلنار حاجبيها وكررت الاسم بتعجب: "كائنات الجارفيا؟ ماذا يجب أن تكون بالضبط؟".

توقفت لثوانٍ عندما شعرت بشيءٍ حولها، كانت الأرض تهتز بشكلٍ يصعب ملاحظته ولكنه ازداد بقوةٍ صحبها صوت ارتطام حوافرٍ بالأرض.

في خلال ثانية كان أمام جلنار قطيع كامل من مخلوقاتٍ بشعة تشبه الخنازير البرية، بل أكثر قبحًا وبشاعة وتوحشًا، بأسنانٍ حادة وبارزة وأعين حمراء كالدماء موجهةٌ بنظرةٍ قاتلة نحو جلنار.

"الآن عرفت ما هي الجارفيا" سخرت جلنار قبل أن تقفز بسرعةٍ وتحفز قفزتها بدفع النيران داخل قدمها حتى لا تعترض طريق هذ القطيع الهائج.

المشكلة أن طريق القطيع كان ملاحقة جلنار أينما تذهب؛ لذلك كانت تعلم أن تجنبهم لا فائدة منه، ابتسمت بحماسٍ قبل أن تقول: "حسنًا إذًا، لنقتل بعض الوحوش!".

أشعلت يدها قبل أن توجه النيران لنصف القطيع لتحوله لرماد، حطت قدمها فوق الأرض وابتسمت بانتصار، لكن تلك الابتسامة اختفت عندنا عادت المخلوقات التي أحرقتها للتو للحياة سليمةً معافاةً وأكثر غضبًا.

"ما اللعنة؟" غمغمت قبل أن تركض بسرعةٍ وترفع الأرض من تحت قدمها لتبعدها عن هذه المخلوقات، الكتاب الذي كان يتبعها في كل مكانٍ أظهر تحذيرًا شعرت جلنار بالغباء بسببه

(استخدم عنصر الهواء!) لقد كان شرطًا في المهمة وقد نسيته.

على الجانب الآخر يوجين كان يستمتع بالمشاهدة، ولكن ليس لوقتٍ طويل لأنه شعر بالذعر عندما وجد كتابًا مشابهًا لخاصة جلنار يحوم حوله فجأة وبدأت مهماتٌ أخرى تظهر ليوجين

"ويحك يا صاح! أنا مشاهدٌ فقط!" صاح ساخرًا، لكن يبدو أن البوابة لا تعترف بالمشاهدين.

قرأ يوجين مهامه المختلفة عن جلنار بتعجب:

"مهام اليوم:

-استعمل قوة الضوء لتحطيم 10 من أعمدة المعبد دون لمسها.

-اقتل 800 من مخلوقات الفياموس الطائرة.

ملاحظة: يفضل أن تبقى حالة جسد المتدرب في وضعية الظهور الجسدية أفضل من الاختفاء الروحي"

طرف بتعجبٍ ونظر لجلنار صارخًا: "هاي، جلنار! هناك شيءٌ عجيب هنا!".

لم تستطع جلنار حتى النظر نحوه، فقد كانت تحاول قتل أكبر عددٍ من تلك المخلوقات باستخدام تياراتٍ حادة من الهواء وقالت: "ليس الآن، يوجين! إن لم تلاحظ...". قتلت أحدهم بقطع رأسه وأردفت: "أنا مشغولةٌ هنا".

تنهد يوجين ونظر لكتابه مجددًا وقال: "يبدو أن علي الاهتمام بهذا وحدي".

لم تكن جلنار تواجه صعوبة في قتلهم بقدرما كانت الصعوبة في أعدادهم؛ فكلما قتلت مجموعة كبيرة تظهر مجموعة أكبر وكأن لا نهاية لعددهم، ولكن رغم كل هذا كانت تستمع بوقتها، المكان هنا يسمح لها بإخراج أكبر قدرٍ ممكن من الطاقة دون أن تفضح أمرها أو تدمر شيئًا ما!

الكتاب الذي يحوم حولها في كل مكان أظهر صفحةً جديدة مع صورٍ توضيحية هذه المرة

(يمكن للمتدرب التحكم بالهواء حول الجسد لتوليد ضغطٍ قوي على الأعضاء الداخلية مما يتسبب في تدميرها

للنجاح في تنفيذ المهارة:

1 – حدد تركيزك على جسد العدو.

 –2 انشئ تيارًا صغيرًا من الهواء بينك وبين العدو واجعل راحة يدك مركزًا للتيار.

3 – عندما تشعر بقدرتك على الوصول لتيارٍ حول جسد العدو اضغط راحة يدك حتى تقتل العدو.

يمكن استخدام هذه المهارة على أكثر من جسد في آنٍ واحد كلما تحسن مستوى المتدرب)

وفي النهاية صورةٌ توضيحية لشرح الأمر بالتفصيل.

كانت جلنار بالفعل تشعر بالحماس والدهشة لتجربة هذه المهارة، ولكن من الصعب التركيز بينما يركض قطيعٌ متوحش خلفك بلا توقف.

أنشأت جلنار تيارًا قويًا وحادًا مر من خلال القطيع كالسيوف الحادة وأنهى حياتهم، وفي خلال دقائق استطاعت جلنار التقاط أنفاسها فيها خرج قطيعٌ آخر مستعد للهجوم.

أخرجت جلنار نفسًا وحاولت التركيز، بسطت يدها وألقت بكامل تركيزها على واحدٍ منهم بينما كانت المجموعة بالكامل تركض نحوها بسرعة، ثبتت قدميها في الأرض، حاولت إنشاء تيارٍ بينهما وابتسمت عندما شعرت بالتيار أشبه بحبلٍ يصلهما، كادت تنجح لولا أن القطيع كان قد اقترب بشكلٍ كاد ينهي حياتها.

اضطرت لتشتيت انتباها والقفز بسرعةٍ من فوق القطيع حتى لا تدهس تحت حوافرهم.

"مجددًا" همست لنفسها قبل أن تحاول إعادة الكرة بتركيزٍ أكبر هذه المرة وبسرعةٍ قبل أن يصل لها القطيع.

على الجهة الأخرى

كان يوجين مكتفًا ذراعيه وواقفًا أمام أحد الأعمدة داخل المعبد بهدوء.

يبدل عينه بين الكتاب والأعمدة قبل أن يحك ذقنه بحيرة. "ماذا علي أن أفعل الآن؟" تساءل ونظر حوله ليسمع الضجيج الذي تسببه جلنار بقتالها مع تلك الوحوش "لن تتمكن من مساعدتي هنا".

أراد تجاهل الأمر حتى تنتهي جلنار من مهامها وتخرج، ولكن أصابه الفزع عندما تذكر أن عدم إنهاء المهام سيجعل منه عالقًا هنا وربما إن فتحت جلنار البوابة بعد إنهاء مهامها لن يتمكن هو من الخروج معها.

أعاد نظره للكتاب وتمتم: "ما هي قوة الضوء على أي حال؟".

تذكر عندما قام بحماية ثونار وجوزفين ليزم شفتيه بتفكير، أخذ خطوةً مبتعدًا عن العمود الحجري الذي أمامه قبل أن يرفع يده بسرعةٍ ويبسط كف يده صائحًا: "ضربة الضوء القاطع!".

الصمت والسكون تليا جملته الصارخة وشعر بسخف وقفته المشابهة للأفلام والجملة التي صرخ بها. "تبًا، إن كانت جلنار هنا لقتلت نفسها من الضحك"

نظر لكف يده بانزعاجٍ قبل أن يلوح به صائحًا بغضب: "فقط حطم العمود اللعين!".

خرجت منه صرخةٌ أنثوية عالية وقفز بفزعٍ عندما انطلقت ضربةٌ من الضوء الأصفر لتحطم أحد الأعمدة وتحولها لفتات!

بدل نظره أكثر من مائة مرةٍ بين كف يده والعمود المحطم واتسعت عيناه بصدمةٍ مما حدث. "ما الذي حدث للتو؟" قال بذهولٍ قبل أن يدرك ما فعله ليصرخ: "أملك قوة خارقة، هذا أعلى مستويات الروعة!".

حرك يده بسرعة نحو عمود آخر، لكنه لم ينجح، عقد حاجبيه ونظر لكف يده مفكرًا، أخذ نفسًا عميقًا ووجه يده نحو العمود وصاح: "أطلق!". ضربةٌ من الضوء الأصفر انطلقت محطمةً العمود بقوة.

كان عليه -فقط- التركيز وتخيل العمود يتحطم وعدم التحول لحالة الشبح التي تجعل منه غير قابلٍ للمس، وجد يوجين متعةً كبيرة في قوته الجديدة وظل يرقص في الأنحاء بينما يحطم الأعمدة بشكلٍ استعراضي يناسبه تمامًا.

جلنار لم تكن أقل منه استمتاعًا؛ فبعد عدة محاولاتٍ استطاعت أخيرًا النجاح في مهارة التحكم بضغط الهواء حول جسدٍ ما، ليس هذا فحسب، بل في خلال وقتٍ قصير تمكنت من استخدام هذه المهارة على مجموعةٍ ضخمة بدلًا من جسدٍ واحد.

كان سهلًا على يوجين تحطيم العشرة أعمدة، وما أن انتهى منهم شطبت المهمة من الكتاب لانتهائها.

صفق بيده مستمتعًا وصاح: "هذا فقط؟ لقد كان سهـ..." اختنقت الكلمة في حلقه عندما سمع طنينًا قريبًا منه، وما أن التفت خلفه اتسعت عيناه وهو يرى مجموعةً ضخمة من مخلوقاتٍ طائرة وكبيرة الحجم متجهة نحوه.

إضافة لطنين أجنحتها المزعج فقد كانت أفواهها كإبرٍ طويلة وحادة مسمومة وأعينها حمراء كالدماء، حدق بيوجين الذي نظر للكتاب يقرأ المهمة التالية (قتل 800 من مخلوقات الفياموس الطائرة).

"سحقًا، ألم تجد عددًا أكبر من هذا؟" شتم قبل أن يقفز محلقًا؛ فالتحليق بالنسبة له كان أسرع من الركض، ولكنه توقف عندما لاحظ مجموعةً أخرى قادمة من الجانب الآخر.

زفر وحرك ذراعيه كتحميةٍ وقال بابتسامة جانبية: "تريدون العبث مع الأشباح؟ لنعبث قليلًا".

عندما وجد أن الفرار ليس حلًا بدأ في المناورة ليتصدى هجماتهم، كان يحاول إطلاق ضربات النور خاصته، ولكنها لم تكن تقتلهم من المرة الأولى، كان يحتاج لضربتين أو ثلاث لينهي عليهم.

"وأنا من ظن أنه أصبح قويًا" غمغم بضيقٍ قبل أن تزداد وتيرة ضرباته، وقال مخاطبًا تلك المخلوقات: "لنتمرن عليكم قليلًا يا رفاق، آمل ألا تمانعوا هذا".

كانت مناورته مع الوقت تصبح أسرع، ولكن ضرباته لن تنهي ثمانمائة منهم خاصةً أنه واحد وهم جيش كامل.

لاحظ يوجين أن في كل مرة يضربهم فيها ويستخدم قوته يصبح الشعور بمسرى الطاقة في ذراعه أكثر سهولة وكأنه يشعر بالدماء تسير داخل ذراعه.

ارتسمت ابتسامةٌ على وجهه وقال محدثًا نفسه: "إنها أشبه بألعاب الفيديو، كلما استخدم اللاعب مهارةً ما تطورت لديه وأصبح تحكمه فيها أسهل حتى يرتقي لمستوى أعلى في هذه المهارة، هذا يعني...".

ركز على مجرى الطاقة في ذراعه وقبل أن تغادر يده قام بتضخيمها أكثر وأكثر حتى أصبح يشعر بذراعه بالكامل ستنفجر من الطاقة المحجوزة داخلها.

لوح بذراعه نحو المجموعة حوله لتتسع عيناه مما حدث.

ضربته هذه المرة كانت أشبه بموجةٍ قوية أنهت حياة جميع المخلوقات الطائرة حوله لتسقط مكومةً ومحترقة فوق الأرضية بينما يتصاعد البخار من ذراعه بالكامل وكأنها كانت تغلي

"أوه!"

لم يجد ما يقوله وهو يحدق حوله، نظر للكتاب ليجد أن المهمة الثانية شطبت، ليس هذا فحسب؛ فقد كانت هناك صورة توضيحية باسم (موجة الضوء) وكيفية تنفيذها، ولكن يوجين كان قد أدرك كيفية فعلها قبل أن يرى الكتاب أو التعليمات حتى!

رفع كتفيه بعدم فهمٍ قبل أن يظهر أمامه خياران على الكتاب: (قبول المهمة الثانية أو فتح البوابة للعبور)

زم شفتيه بتفكيرٍ وقرر أنه لن يختار قبل أن يخرج ويرى حالة جلنار، لربما تحتاج لمساعدته.

كان يريد التفاخر بالمجموعة التي قضى عليها، ولكنه تجمد عندما خرج للساحة ليجد آلافًا من تلك المخلوقات البشعة ملقاةً فوق بعضها البعض بينما جلنار تنفض يدها وتنظر للكتاب الخاص بها وقد أنهت المهمة الأولى.

عندما تم الشطب على مهمة جلنار الأولى كتب بجوارها: (رقم قياسي، تم قتل 14000 مخلوق جرافيا)

التفتت عندما لاحظت وجود يوجين لتقول بينما تدلك ذراعها الذي تخدر: "أين كنت؟". حاول إبعاد عينيه عن الرقم المهول في كتابها وقال: "أردت التفاخر برقمي، لكن تبًا يا فتاة! كيف أنهيتِ هذا العدد؟".

رفعت جلنار حاجبًا وقالت: "أي عددٍ تريد التفاخر به؟".

أشار لكاتبه الذي يحوم حوله لتتسع عينا جلنار بصدمةٍ وتقول: "تملك واحدًا". أومأ قبل أن يلتفت بسرعةٍ ويلقي في الهواء ضربةً من ضربات الضوء خاصته ويقول: "وقد أتقنت هذا أيضًا".

ظلت جلنار تنظر نحوه بصدمةٍ وتنظر لكف يده قبل أن تدرك ما فعله لتصرخ: "تملك قوة أيضًا! هذا رائع!". أومأ مبتسمًا بحماس وقال: "الآن يمكنني إحراق الإريبوس معكِ بكل سرور".

ابتسامة جلنار أصبحت أصغر أومأت دون أن قول شيءٍ مما جعل يوجين يشعر برغبة للكم وجهه؛ فقد كانت محادثتها مع الثنائي الغريب ذاك ما زالت تشعرها بالذنب.

حاول تغيير الموضوع وقال: "أنهيت مهماتي، ماذا عنكِ؟". نظرت لكتابها وقالت: "أملك اثنتين بعد، قتل قائد المعبد هافير والذي لا أملك فكرةً عنه، والحصول على الإكسير الأحمر والذي أيضًا لا أملك فكرة عنه".

نظر يوجين خلفه وأشار قائلًا: "المعبد خلفنا تمامًا؛ لذا إن كان هناك قائد المعبد فبالتأكيد هو موجودٌ داخله". الاثنان حدقا بالمعبد قبل أن يتحركا لدخوله.

كان فارغًا وقديمًا تملأه الأتربة بينما تصله أشعة الشمس من خلال النوافذ الطويلة غير المغلقة، تمنح المكان بعض الهواء الجديد.

الأعمدة بعضها متآكلٌ وبعضها ما يزال صامدًا والجدران متصدعة، ولكن ما زالت قوية، المعبد من الداخل كان فارغًا إلا من بعض التماثيل الموجودة هنا وهناك تحدق بهما بصمتً وبعض المخلوقات الصغيرة التي اتخذت من زوايا المكان منزلًا لها.

الاثنان توقفا عن المشي عندما وصلا لبابٍ ضخم وطويل مزخرف بأسلوب الحفر القديم، دفعته جلنار ليملأ المكان صوت احتكاك نهاية الباب بالأرضية.

دلف كلٌ منهما للداخل حيث وجدا نفسيهما في قاعةٍ ضخمة وأمامهما عرش كبير وهناك سيفٌ ضخم تم غرسه بكرسي العرش.

المكان فارغ من أي مخلوق، القاعة الضخمة فارغة من أي غرض سوى تمثال ضخم مغمض العينين يملك ملامح ساكنة وهادئة خلف العرش، بدا كفارس عملاق الحجم في سبات.

"تبدو هذه كغرفة رئيس المستوى" همس يوجين لتنظر نحوه جلنار باستغراب ليفسر: "تعلمين كألعاب الفيديو وما شابه، هناك دائمًا مرحلة أخيرة يكون فيها وحشٌ كبير ينتظر اللـ... حسنًا، سأصمت" قرر ابتلاع باقي جملته عندما لاحظ نظرة جلنار غير المهتمة والتي بدأ صبرها ينفد.

تمشت جلنار حول المكان، ربما هناك بابٌ أو شيء ما، لكنها لم تجد شيئًا قبل أن تلاحظ أن السيف الضخم الذي يخترق العرش هناك كتابات بارزةٌ على مقبضه، تحركت جلنار نحو العرش وصعدت السلالم الحجرية لتنظر عن قربٍ لسيف.

لم تستطع فهم المكتوب وقد كان من الصعب نطقه، لكن اكتشفت جلنار أنها تنظر إلى أحرفٍ لاتينية أو نصف لاتينية تقريبًا، ومن سوء حظها أنها لا تستطيع إيجاد أي معنى للمكتوب.

"جلنار" كادت تُسكت يوجين لأنه يشتت انتباهها، لكن صوته المرتجف جعلها تلتفت نحوه بفضول.

لم يكن ينظر نحوها، بل كانت عينه معلقةً على التمثال الضخم الموجود خلف العرش، أخذ يوجين خطوةً للخلف وقال بحذر: "جلنار، ابتعدي عن هذا السيف حالًا".

التفتت جلنار ببطءٍ نحو التمثال، وعندما وقعت عينها عليه شعرت بقلبها يتوقف عن النبض وبجسدها تجمد في مكانه.

التمثال ذو العينين المغلقة كان يحدق بجلنار بنظرةٍ واسعة وبصمتٍ مرعب، ولوهلةٍ لم يبدُ كتمثال، بل كشيطانٍ دبت فيه الحياة.

كانت تلك التعابير أكثر تعابير مرعبةٍ قد تراها جلنار في حياتها.

عادت للخلف بسرعةٍ لتتعثر بالسلم وتقع أرضًا قبل أن يهتز المكان بتحرك التمثال الذي لم يعد تمثالًا بعد الآن، يده اتجهت نحو سيفه وسحبه من العرش ليتحرك ويقف أمام العرش وتتحول تعابيره المصمتة لتكشيرةٍ أبشع، ثم يبدأ جسده بالكامل بالاشتعال ليصبح كتلةً من اللهب.

نهضت جلنار على قدميها، وقبل أن تحاول الركض حتى لوح ذلك الوحش بكف يده الضخم ليضرب جسد جلنار بالكامل، فتندفع بقوةٍ نحو الجدار، إن كان هذا شخصًا عاديًا لتحولت عظامه لكومةٍ من الزجاج المحطم.

"جــلــنار!" صرخ يوجين بفزعٍ قبل أن ينظر لهافير ملك المعبد بغضبٍ ويوجه نحوه ضربةً قوية من الضوء.

اتسعت عيناه عندما لم تؤثر عليه حتى، بل أن هافير لم يلتفت ليوجين وكأنه غير موجود، كتاب يوجين تغير فجأةً وأظهر تحذيرًا بلون أحمر (لا يمكن التدخل في نظام تدريب متدربٍ آخر)

لعن يوجين وركض نحو جلنار التي كانت تئن بألمٍ وتحاول النهوض قبل أن يصل لها هافير المشتعل.

ساعدها على النهوض وقال: "لا يمكنني مساعدتك، أعتذر". نظرت للتحذير في كتابه قبل أن تقول: "لا بأس، سأعتني بأمر هذا السافل".

نفضت ملابسها قبل أن تنظر له وتمتم: "لك الضربة الأولى، ولي الأخيرة".

ركضت نحوه وكاد يلوح بسيفه نحوها لولا أنها تحكمت بمئاتٍ من جذور الأشجار التي التفت حول سيفه وذراعه بالكامل.

قفزت جلنار نحوه وحولت نفسها بالكامل إلى نيران إلا قبضتها التي تحولت لصخرٍ قوي ولكمت وجهه ليترنح جسده.

"ما رأيك بهذا؟" قالت بابتسامةٍ جانبية ما أن هبطت فوق الأرضية، لكن تلك الابتسامة اختفت عندما ازداد غضب هافير ليقطع الجذور حول سيفه وذراعه ويلوح بسيفه نحو جلنار.

بسرعةٍ دفعت جلنار الهواء تحت قدمها لتحلق بعيدًا عن سيفه، لكنها لم تلاحظ أن يده الأخرى تحركت لتضرب جسدها مجددًا وتندفع نحو الحائط لتحطمه خلفها.

كانت جلنار تلاحظ أنها إن تلقت ضرباتٍ كهذه منذ شهر لكانت الآن ميتةً بلا شك، ولكنها تتلقى ضربةً من تمثال صخري حجمه مائة ضعف حجمها أو أكثر وما زالت متمكنةً من الحركة.

نهضت بسرعةٍ وصنعت أضخم صخرةٍ يمكنها صنعها وألقتها عليه.

وقع فوق الأرضية والصخرة فوقه، ولكن لم يحتج لأكثر من ثوانٍ ليجعل الصخرة تحلق في اتجاه جلنار بينما ينهض هو.

تجنبت جلنار الصخرة بصعوبةٍ ولم تعطه فرصةً وحاولت صنع أكثر تيار هواءٍ حاد يمكنه قطع الصخور ووجهته نحو عنق هافير، لكن ازدياد نيران هافير شتت التيار ولم يسبب سوى تصدعٌ صغير على وجهه.

لوح بسيفه نحوها وما أن تجنبته وجدت موجةً من النيران تتجه نحوها، لم تملك فرصةً لتتحول لهيئة النار؛ فلم تجد سوى أن تستخدم عنصر الماء بسرعةٍ لتصد هجومه.

لم تكن سريعةً كفاية لأن جزء من النار وصل لذراعها وسبب حرقًا سيئًا عليها، لكنها منعت وصول النيران لوجهها وباقي جسدها.

الكتاب فتح صفحةً جديدة وبدأت تُكتب معلومات عن ملك المعبد الذي تقاتله جلنار.

حاولت جلنار قراءتها بسرعةٍ بينما تحاول تجنب هجماته التي لا تنتهي، ولكي تعطي نفسها بعض الوقت صنعت إعصارًا من الهواء وملأته بموجاتٍ من الماء، ثم نحوه وتطفئ نيرانه ولو لدقيقةٍ لتتمكن هي من قراءة الكتابة.

(هافير ملك المعبد:

وحشٌ ذو مستوى طاقة ضعيف، يحرس معبد أمادا

جسده بالكامل مصنوعٌ من أقوى أنواع الصخر في العالم

قلبه جمرةٌ من النيران؛ لذلك يمكنه تسخير النيران كقوة له

الهجوم الجسدي لا يجدي نفعًا معه لصلابة جسده وقوته

سيفه مصنوعٌ من أنقى أنواع المعادن وأكثر السيوف حدة…

نيرانه هي أقوى وأفضل مصدر لطاقته وروحه السحرية)

رفعت جلنار حاجبًا وكررت بعدم تصديق: "ذو مستوى منخفض! أتمزح معي؟".

نظرت نحو جسده الذي انطفأت نيرانه بفعل مياهها وقد ركع على إحدى ركبتيه مستندًا على سيفه قبل أن يعاود إشعال جسده بقوةٍ مجددًا.

"أريد مساعدتك، ولكن حمدًا لله أن هذا الشيء لا يراني حتى" سخر يوجين الذي أخذ العرش مكانًا مناسبًا لمشاهدة القتال.

دحرجت جلنار عينها وتمتمت: "أنا من تأخذ المهمات الصعبة دائمًا".

أعادت تركيزها إلى هافير وتجنبت ضربة النيران التي وجهها نحوها تليها تلويحةٌ من سيفه قفزت فوقها لتقف فوق سيفه وتركض فوقه متجهةً إلى وجهه لتنشئ موجةً من المياه تطفئ نيرانه مجددًا.

تراجع للخلف لثوانٍ ممسكًا بوجهه، ولكنه ما لبث حتى استعاد نيرانه مجددًا.

"تبًا، القوة الجسدية لا تنفع ضده، والنيران هي مصدر قوته، إن أردت قتله علي إطفاء نيرانه" فكرت جلنار بينما تتجنب تلويحه من يده.

قفزت، ولكن ما أن هبطت قدمها على الأرض وجدت سيفه متجهًا نحوها لا محالة.

كان من المستحيل الابتعاد عن الضربة، مهما حاولت من هذه المسافة كان اصطدام السيف بجسدها حتمي، حتى أن يوجين الذي كان يستمتع بالمشاهدة نهض بسرعةٍ وفزع عندما أدرك أنه سيجد جسد جلنار مقسومًا لنصفين.

جلنار فعلت الشيء الوحيد الذي خطر ببالها

تصدت للسيف بقبضتها التي حولتها بالكامل لصخرٍ قوي ودعت الإله لئلا تتحطم يداها.

قوة دفع السيف جعلتها تندفع للخلف، ولكنها ثبتت قدمها بالأرضية بشكلٍ أقوى حتى تبطئ من ضربته وقبضت يدها على سيفه بقوة، وما أن شعرت بذراعه تصبح أضعف بسبب دفعها سيفه ضده صرخت بقوةٍ بينما تضغط بأكبر قوةٍ تملكها على سيفه، حتى نجحت في كسر السيف لنصفين.

قفزت بعيدًا عنه تلتقط أنفاسها وتحاول استعادة قوة ذراعها التي تشنجت بسبب ضغطها عليها بقوةٍ واستنزاف طاقتها.

نظر هافير لسيفه قبل أن يلقي به بعيدًا وينظر لجلنار مستعدًا للهجوم التالي.

أخرج يوجين نفسًا مرتاحًا وألقى بجسده مجددًا فوق العرش وقد بدأ يتابع هذا القتال باهتمامٍ أكبر.

حاولت جلنار التفكير في طريقةٍ لإطفاء نيرانه ولم تجد سوى عنصر الماء، وبالرغم من أنها جربته سابقًا ولم يجدي نفعًا فقد قررت التجربة مجددًا، ولكن هذه المرة ستدفع نحوه المياه بشكلٍ مستمر بلا توقف.

وبالفعل بدأت جلنار تنفيذ خطتها ووجدت نفسها تستعمل الماء أكثر مما كانت تظن وقد بدا أن نيرانه بدأت تقاوم الماء.

ضربة تلي الأخرى ولم يكن هناك ما ينجح معه حتى شعرت جلنار بالتعب.

نظرت للكتاب عندما بدأ يظهر تعليمات جديدة بعنوان: (الجليد!)

شعرت جلنار بصدمة عندما قرأت المكتوب، عنصران يعملان معًا! لم تستطع جلنار إخفاء دهشتها لتهتف: "ما اللعنة؟".

كان الكتاب يظهر نوعًا آخر من استخدام العناصر، خلط العناصر معًا لخلق مركبٍ جديد! كانت التعليمات واضحة

الماء + الهواء البارد = جليد!

لم تحاول جلنار فعل هذا سابقًا، بل هي متأكدة ألا أحد سابقًا تمكن من فعل هذا!

لم تملك جلنار أي خيارٍ سوى المحاولة، أرادت وضع مسافة بينها وهافير الذي لا يتوقف عن محاولة إشعالها أو دهسها تحت قدمه، جمعت قوةً ضخمة من الهواء قبل أن تركض وتستغل ذراعه التي تحركت نحوها للكم جسدها وتقفز فوقها راكضةً نحو صدره وتوجه تلك الضربة لمنتصفه.

كانت ضربتها قويةً لدرجة أن الغرفة بالكامل اهتزت لاصطدام جسد هافير بالحائط، وظلت الرياح تعصف في المكان لثوانٍ قبل أن تهدأ.

يوجين الذي ظن أن ضربة جلنار هذه هي النهائية والقاتلة قفز بصدمةٍ وهو ينظر لجسد هافير الملقى، كاد يصرخ بسعادةٍ لولا أن هافير تحرك مجددًا وحاول الوقوف. "تبًا لك يا رجل!" صاح يوجين متذمرًا وألقى بجسده مجددًا فوق كرسي العرش.

"ماءٌ وهواء بارد" تمتمت جلنار وهي تنشئ مجالًا من الهواء حول قبضتها اليمنى، ولكنه كان تيارًا عادي، لا باردًا. "كيف يمكنني بحق الله التحكم بدرجة حرارة الهواء؟" قالت بغيظٍ من بين أسنانها لتحاول مجددًا تحويل الهواء لآخر بارد.

قفزت بسرعةٍ عندما عاود هافير الهجوم عليها بقبضته التي حطمت المكان الذي كانت تقف فيه للتو واستغلت أنها قفزت خلف ظهره لتحاول محاولتها الأولى.

بيدها اليمنى أنشأت تيار هواءٍ قوي وباليسرى سخرت المياه وحاولت دمجهما معًا، ولكن النتيجة كانت مجرد هواءٍ قوي وموجةٍ من الماء!

حاولت مرةً أخرى بينما تركض بعيدًا عنه، ولكنها نجحت فقط في دفعه بعيدًا.

"تبا، هيا!" صرخت بينما تحاول مجددًا، ولكنها غفلت عن مدى اقترابه منها وما أن فشلت شعرت بقبضته تمسك قدمها وتسحبها لتلقي بها للناحية الأخرى من القاعة فترتطم بالجدار بقوةٍ وقد احترقت قدمها.

"جلنار! ما زلتِ حية، صحيح؟" سأل يوجين بحذرٍ وتنفس براحة عندما لاحظها تتحرك وتبعد عنها ركام الحائط. "كيف يمكنها تحمل كل هذه الضربات؟" تمتم يوجين بتعجبٍ بينما يراقب نهوضها مجددًا.

جلنار التي كانت تحاول استعادة اتزانها لاحظت قدم هافير المستعدة لضرب جسدها لتركض بسرعةٍ للجهة الأخرى من القاعة وتحفز سرعتها بدفع النيران إلى قدمها.

"كيف لي أن أنشئ هواءً بارد؟" لعنت بينما تحاول الهروب من هافير الذي أصبح فجأةً أسرع وأقوى ونيرانه أصبحت أكبر.

التفت حول الزاوية التي كانت تتجه نحوها وكادت تصيبها إحدى قبضات هافير، ولكنها تجنبتها، وعندما ظنت أنها ناجيةٌ تفاجأت بأنها أمام طريقٍ مسدود وهافير خلفها تمامًا والطريق الوحيد للهرب هو من أسفل قدميه، ولكن سيكون من السهل عليه إضمار النيران فيها وحرقها دون مجهود.

"تبًا تبًا تبًا..." كررت تحاول البحث عن مخرج، وعندما لاحظت ذراع هافير المرتفعة والتي ينوي ضربها بها لم تجد أي مهرب آخر سوى الانزلاق من بين قدمه.

"هواء بارد وماء" كررت داخل عقلها تحول إنشاء تيارٍ من الهواء البارد، ولكن لا تعرف كيف.

قفزت لرأسها فكرة، أو ذكرى بالمعنى الأصح

لقد سبق وصنعت نيرانًا باردة!

يمكنها تذكر الطريقة، إن كان الأمر ذاته ينطبق على الهواء فإذن

"أرجوك أن تنجح، وإلا فأنا هالكة" همست لنفسها قبل أن تركض وتنزلق فوق الأرضية من تحت جسد هافير، كانت تعلم أنها ميتةٌ في هذه اللحظة إن لم تنجح.

أنشأت تيارًا من الهواء حول يدها اليمنى والماء حول يدها اليسرى. "أبرد" قالت تحاول جعل التيار أبرد من هذا. "أبرد!" كررت بين أسنانها وفي الثانية التي اندفعت نيران هافير التي تحيط جسده نحوها دفعت المياه والهواء معًا في الوقت ذاته.

أغمضت عينيها بقوةٍ وانتظرت الشعور بجسدها يحترق، ولكن عوضًا عن هذا لم تسمع أي ضجةٍ في المكان، الصمت غلفه وتبدل الشعور بالحرارة بشعورٍ بالبرودة تغلفها

تحتها وفوقها ومن كل مكان، كانت القاعة باردةً كالجليد.

فتحت عينيها ببطءٍ تنظر حولها بصدمة، الأرض كانت أشبه بساحةٍ من المياه المتجمدة والمكان بالكامل مغطى بجليدٍ أبيض، وفي منتصف المكان كان تمثال هافير الضخم ثابتًا في مكانه ككتلةٍ من الجليد.

لبرودة المكان ما أن فتحت فمها لتخرج نفسًا منذهلًا رأته كبخارٍ أمام عينها.

"هل تمزحين؟"

التفتت ليوجين الذي وقف بعيدًا عن العرش الذي تجمد بدوره أيضًا. "أردت فقط تجميده هو" أشارت جلنار نحو هافير قبل أن تعيد نظرها للمكان.

"جلنار، انظري لنفسك!" صاح يوجين بصدمةٍ لتعقد حاجبيها وتنظر لانعكاسها على الأرض المجمدة، لكن ما لبثت حتى أصابتها الصدمة.

كانت بشرتها شاحبةً وعينها رماديةً بالكامل، نظرت لذراعيها اللتين ما أن حركتهما تحولا إلى موجةٍ من الرياح، ثم عادا إلى شكلهما الآدمي.

في الواقع لم تكن جلنار تقف على قدميها، فقد كانت تحلق بمسافةٍ بسيطة عن الأرض بفعل الريح الذي تلف جسدها.

"ماذا يحدث؟" صاحت بفزعٍ تنظر لنفسها، ولكن ما لبثت حتى عادت قدماها فوق الأرضية مجددًا وبدأت تعود لهيئتها الطبيعية.

كتاب جلنار تحرك نحوها وشطب المهمة الثانية )قتل ملك المعبد هافير( وبجوار المهمة كتبت جملةٌ صغيرة:

)تمكن المتدرب من الوصول لهيئة الرياح + إتقان مهارة الجليد)

كلٌ من جلنار ويوجين تبادلا النظرات المدهوشة قبل أن يصيح يوجين الذي فقد صوابه: "هناك هيئة رياح؟ لقد تمكنتِ من هيئة الرياح إضافةً للنار، وقد جمدتِ المكان!".

ابتسمت وهي تنظر حولها ورفعت كتفيها بعدم فهم أيضًا لما يحدث.

التفتت هي ويوجين نحو سيف هافير المحطم سابقًا والذي بدأ يختفي وحده لتظهر مكانه قنينةٌ صغيرة تحتوي على إكسيرٍ أحمر.

"وها هي مهمتي الثالثة" قالت جلنار واتجهت للقنينة الزجاجية الصغيرة لتحملها وتنظر نحوها بحرص. الكتاب أظهر صفحةً جديدة تحتوي على صورةٍ مرسومة للقنينة ومعلومات عنها كاملة

(لإكسير الأحمر:

جرعةٌ سحرية قادرة على علاج جسد المتدرب وإعادة نشاطه بعد المعارك التي سيخوضها.

تساعد جرعة الإكسير الأحمر على زيادة قدرة المتدرب في التحكم بمهارته التي اكتسبها.

يمنح الإكسير المتدرب مقدرة على رفع مستوى طاقته الروحية وتحكمه في عنصر الهواء)

أعطت جلنار القنينة ليوجين الذي تفحصها ونظر للمعلومات في الكتاب، فتح يوجين غطاء القنينة وأعطاها لجلنار قائلًا: "ستنفعكِ، ذراعكِ وقدمكِ محترقتان". أمسكتها جلنار وتناولتها بالكامل وألقت القنينة بعيدًا.

ذراعها المحترقة بدأت في التعافي كقدمها وبدأت تشعر بالنشاط يعود لجسدها والتعب الذي كانت تشعر به بسبب قتال هافير اختفى بالكامل.

وهكذا شطبت المهمة الأخيرة لجلنار ليظهر لها خياران ممثالان لما ظهرا ليوجين ( قبول مهمة جديدة أو فتح البوابة للعبور)

"لقد اكتفيت لليوم" قالت جلنار ليومئ يوجين متفقًا ويقول الاثنان معًا: "فتح البوابة للعبور". بوابتان فتحتا لهما ليخرج كلٌ منهما منها حيث المكان الذي كانا فيه قبل دخول البوابة.

أغلقت البوابتان والكتابان معهما أظهرا الوقت الذي قضاه كلٌ منهما داخل البوابة ( يومٌ وعشرون دقيقة) أي ما يساوي في الحياة العادية أربع ساعاتٍ وثلاث دقائق تقريبًا.

"هل قضينا يومًا بالكامل هناك؟" تعجب يوجين لتنظر جلنار للسماء المظلمة حولهما وتقول: "أي أننا اختفينا لأربع ساعات هنا، أتمنى ألا تصاب واندر بالفزع".

ربت يوجين على ظهر جلنار وقال: "أمامكِ يومٌ طويل غدًا، يفضل أن تأخذي قسطًا من الراحة". أومأت متفقة، ولكنها نظرت خلفها وقالت: "سأطمئن على كلٍ من آركون وكارولوس، ثم سأعود للمنزل".

"اذهبي وحدكِ، أنا سأعود للمنزل، لقد تجولت في المملكة بالكامل اليوم حتى شعرت أنني كدت أتوه للأبد"

ابتسمت جلنار وقالت: "شكرًا لك، يوجين، حقًا ما كنت لأثق بإيراكوس مجددًا لولا ما أخبرتني به". رسم تعبيرًا متفاخرًا وقال: "يوجين للأوقات الصعبة". ضحك كلاهما قبل أن يأخذ كلٌ منهما طريقه المعاكس للآخر.

نظرت جلنار ليديها قبل أن تحاول إنشاء تيار بارد من الهواء ودمجته مع قليل من الماء ليتحول لجليد حول يدها، فكرت جلنار جيدًا حول هذه المهارة الجديدة، عليها ألا تضع حدودًا لمهارتها؛ لذلك قررت أن تعمل أكثر على دمج الهواء والماء داخل قبضةٍ واحدةٍ من يدها لتنطلق كجليد.

توقفت أمام مكان كارولوس المفضل ووجدته نائمًا في بقعته المفضلة، وعلى مسافةٍ قصيرة منه كان آكرون ملتفًا حول نفسه ونائم.

ابتسمت باطمئنانٍ واتجهت لكارولوس لتداعب رأسه بهدوءٍ حتى لا يستيقظ، التفتت لآركون الذي فتح عينه واتجه لجلنار لتمسح على رأسه وتهمس: "ألم تنم بعد؟". أصدر صوتًا من حلقه دليلًا على شعوره بالراحة لمداعبة جلنار لفرائه، ثم عاد للنوم مجددًا.

تركته جلنار ببطءٍ وانسحبت بهدوء بعيدًا عنهما لتتركهما ينامان بعد هذا اليوم الطويل.

أرادت العودة للمنزل، لكنها شعرت أن هدوء الغابة في هذا الوقت قد يساعدها على التفكير حول يوم الغد بشكلٍ أفضل، ماذا عليها أن تقول أو تفعل؟ ما هي أفضل الكلمات التي يمكنها قولها؟

غدًا لن تخاطب سكان الحدود والعامة فقط، إنها تخاطب ممالك كاملةً وعليها امتصاص غضبهم وتساؤلاتهم من خلال حديثها قدر الإمكان.

تنهدت وأيقنت أن أفضل شيءٍ يمكنها فعله الآن هو عدم التفكير كثيرًا في هذا الأمر، كلما فكرت فيه شعرت أنها ستخفق.

توقفت عندما لاحظت أنها وصلت إلى مكانٍ بعيدًا عن المنزل، ابتسمت عندما لاحظت المكان الذي تقف فيه

كان المنحدر الذي قابلت أتريوس فيه للمرة الأولى، أو بالأحرى الذي حاول قتلها فيه للمرة الأولى.

لم تتمالك ضحكتها وهي تتذكر ذلك اليوم ومدى فزعها كلما رأت أتريوس، ومع الوقت تغير الخوف لكراهيةٍ شديدة، ولكن في النهاية ظل أتريوس اللغز الذي يجذبها دائمًا مهما حاولت كراهيته أو الخوف منه.

لم يفلح مع هذا الرجل شيء، حتى وقعت في حبه بشكلٍ سيء.

تنهدت ووقفت على حافة المنحدر، إحدى قدميها على الأرض والأخرى أخذت تأرجحها في الهواء على الحافة، لم تعد الأماكن العالية تخيفها بعد الآن، ولم يعد الظلام يخيفها ولم تعد النيران ترعبها.

أتريوس كان دائمًا سببًا في جعلها تتخطى أحد مخاوفها، حتى أصبحت لا تخافه هو.

وبالرغم من وضوح الأمر لهما، وإيقانها أن أتريوس يبادلها المشاعر ذاتها، لا تعلم إن كانت بقوة مشاعرها أو أقل، ولكنها تعلم جيدًا أنه يشعر نحوها بشيءٍ ما، وبالرغم من ذلك

تشعر أنها بعيدةٌ عنه، ما زال أتريوس الحقيقي بعيدًا عنها كل البعد ولا تعرف عنه شيئًا، يشبه أحجيةً مركبة بشكلٍ معقد

كلما أنهيت لغزًا وظننت أنك تقترب من الحل تجد نفسك قد فتحت بابًا للغز آخر.

زفرت بتعبٍ وحاولت إيقاف نفسها عن التفكير أكثر والعودة للمنزل.

التفتت بسرعةٍ عندما سمعت صوت تحرك الشجيرات خلفها، عقدت حاجبيها وأخذت حذرها مستعدةً للهجوم على أيٍ يكن ما سيخرج من هناك.

حركت يدها بسرعةٍ وصنعت حجرًا ضخمًا لتدفعه نحو الشخص أو الشيء الذي خرج من بين الأشجار، إلا أن صخرتها تحطمت في الهواء بفعل تياراتٍ حادة، وظهر من خلفها أتريوس الذي أظهر تعبيرًا متفاجئًا قبل أن ينظر لجلنار.

"هل أبدة كعدوٍ هنا؟" سأل ساخرًا لتتنفس جلنار براحة وتهتف بانفعال: "لا تظهر فجأةً من اللا مكان وتتوقع مني عدم مـ...".

لم تتمكن من إنهاء جملتها لأنها نست لوهلةٍ حقيقة وقوفها على حافة المنحدر، ولانفعالها الشديد أخذت خطوةً للخلف، لكنها لم تشعر بالأرض تحت قدمها ووجدت جسدها يهوي للأسفل.

الصدمة شلت تفكيرها لثوانٍ ولم تتمكن من فعل أي شيء

تمامًا كالبداية التي بدأت بها كل هذه الفوضى، عندما وجدت جلنار نفسها على حافة المنحدر وجسدها يهوي للأسفل

يد أتريوس التي التقطتها ونظرة عينه يومها ما زالت تذكرها، نبرة صوته وجملته، وفي النهاية إفلاته ذراعها لتسقط، بدا كمشهدٍ يتكرر مجددًا، ولكن هذه المرة لم تمتد أي ذراعٍ لتمسكها ولم ترَ عين أتريوس التي تنظر بكراهيةٍ مطلقة.

في الثانية التي استعادت فيها إدراكها وتفكيرها بالرغم من تدفق الدماء بشكل سيء لرأسها أرادت فعل شيءٍ بسرعة، ولكن

نظرها التقط الجسد الذي قفز خلفها من فوق المنحدر بسرعةٍ والتقت عينها بعينه الزجاجية لثوانٍ…

تمامًا كما حدث في بداية لقائهم

ولكن نظرة الكراهية تبدلت بنظرةٍ أخرى أكثر فزعًا وخوفًا، نظرة شخصٍ يُقاتل حتى لا يفقد شيئًا آخر مهمًا بالنسبة له.

وعوضًا عن قبضته التي أمسكت ذراعها ذلك اليوم التقط جسدها بسرعةٍ وحاوطها بذراعيه، يحتضن جسدها نحوه.

وما حدث بعد ذلك كان كافيًا لإصابة جلنار بالشلل.

الظلام التف حول جسديهما فجأةً وبدا وكأن دخانًا أسود يحمل جسديهما معًا

شعرت جلنار بجسدها أخف بكثيرٍ من المعتاد وبقلبها يتوقف عن النبض، بينما ينتشر الظلام حولها.

نظرت جلنار لذراعيها الملتفة حول جسد أتريوس واتسعت عيناها عندما رأت ظهره

كان الظلام جزءً من جسد أتريوس

وأتريوس جزء من الظلام.

تمامًا كما كان جسد جنود الإريبوس يتحول لكتلةٍ من الظلام المتحرك

كان أتريوس كذلك.


******************************************

اهلااااااااااااا

ياخي ليكم وحشه ولا هي الامتحانات بتخلي الواحد يشتاق وخلاص؟

بعتذر عن التأخير لكن كممتحنه فانا خدت اول يومين اجازه نوم واليوم الثالث خدته برطعه (برطعه يعني البقاء في السرير دون فعل أي شيء يفيد البشرية)

و اه انا من البشر الي لما يضغطوا ممكن يناموا 3 ايام ورى بعض عادي جدا.

ولما جيت اشوف الفصل اتفاجأت انه 20 الف كلمه تقريبااا فكانت وقعه مهببه الصراحه

وبالمناسبه الفصل لسه متدققش املائيًا ونحويًا فلو سمحتم محدش يدقق لحد ما المدققه تخلص منه وأرجع انشر النسخه المتدققه

بس قلت انزله وبعدين ادققه عشان متستنوش اكتر

وطبعا للحظ لما جيت ادقق وخلص نصه اللاب قفل وقرر يعمل ابديت واخد قرار بمزاجه

فسوري الفصل كان المفروض ينزل ابكر بس نزل

طبعا نهاية الفصل مش محتاجه اتكلم عنها يعني هسيبكم انتم تتكلموا

الناس القديمه زمنها متشققه فرح

كلها فصلين وندخل في الجديد

هيهيهي

لوف يووو 

بايي


Esraa A

احظ بوقت ممتع بعيدًا عن العالم.

40 تعليقات

  1. بسم لله اول تعليق

    ردحذف
  2. الردود
    1. الكاتبه هواي تتأخر تنزيل البارتات

      حذف
  3. أزال المؤلف هذا التعليق.

    ردحذف
  4. ثالث تعليق
    اخيراااااا العيدية 💃💃💃😍

    ردحذف
  5. العيديه متأخرة بس فداك ي قلبي ❤️❤️❤️ ربنا معاك يا سو ❤️❤️🤭🤭

    ردحذف
  6. الفصل دة ليه مكان مميز في قلبي🥺😭😭

    ردحذف
  7. ❤️❤️❤️❤️❤️❤️

    ردحذف
  8. بنجلط اللحظة اللي انتظرتهاااااا🌪️🌪️

    ردحذف
  9. يعطيكي العافية عل فصل، شوي ونوصل محل ماتركنا🙈❤️‍🔥

    ردحذف
  10. كيف الواحد يموت حماساً رغم انه عارف ،حماسي للفصل اللي بعده ما تنشر مليوووون💜

    ردحذف
  11. الفصل ده كنت مستنياه على ناررر وطبعا الحماس زاد للفصول القادمة اكتر واكتر لانى كل ما اقرأ مش عارفة اقرأ حاجة تانية ...يعنى ببساطة كنت بعد أيام امتحان اسراء يوم يوم وطبعا بالتوفيق حبيبتى فى امتحانك أن شاءالله

    ردحذف
  12. اخيرا معدش كتير وصلنا اهووه ❤️

    ردحذف
  13. طوال مسيرتي القرائية ماقد انصدمت صدمه زي هذي او تجاهلت التلميحات الكثيره اللي زي كذا فعلا يا اسراء انتي شخص اسثنائي 💙

    ردحذف
  14. انا الوحيده الي عندي هذا الاحساس او في حد غيري

    الاميرة جومانا قلبي مش مطمني من ناحيتها احس وراها شي كياتتها وطيبتها الزياده وراها خبااايا

    ردحذف
  15. انا لسه فاكره شعوري اول مره اقرأ فيها الفصل ده مع لسه بردو نفس الحماس

    ردحذف
  16. هاد الفصل ذكرني بسولو ليفلينغ .. اتريوس من اول كان يحوم حوله شيء مريب و لكن لم اتخيل يكون ايريبوسي

    ردحذف
  17. دا الفصل الي كنت مستنياه هو والفصل الي بعده
    حقيقة اتريوس 🤤♥️

    ردحذف
  18. انا حابه اقول حاجه بالنسبة بجد للناس اللي بتقول ان تنزيل الفصول بيأخر والكاتبه هتسحب علينا يا جماعه اسراء ليها حياة بردو يعني عندها مشاغل تانيه وحتي لو فاضيه ومعندهاش حاجه من حقها ترتاح بردو ثم يعني الفصول مش بتتاخر ولا حاجه الحمد لله انها بتنزل وانا كمتابعه قديمه فكره ان توبازيوس بتنزل من تاني لوحدها تفرح فياريت نراعي كلنا عندنا حياه تانيه فياريت نحترم ده ونلتمس الاعذار لو هي اخرت

    ردحذف
  19. توبازيوس من أروع الروايات الي قراتهَ

    ردحذف
  20. ايراكوس بھذا الفصل يضحك😂😭😭
    شكل جلنار واتريوس اخر شيء يوتر واني افكر شراح يصير اتوتر 😭😭💕

    ردحذف
    الردود
    1. في فصل اليوم لانو ما عندي انستا

      حذف
  21. اتريوس اريبوسي!!!!!!!!!!!! خدت الصدمه بقا 💀💀
    ما فكرت بهالشي من قبل!! بس هذا يوضح اشياء كثيرة.. زي ليش في اثنين الترانيوسيين في الفرسان؟ طلعوا مو ثنين بس احنا كنا نحسب اتريوس منهم 💀 وعلامته الي كان يخفيها، ويمكن الهالة القويه والغريبه الي حس فيها اغدراسيل، وكيف كان يحذر جلنار دايما عنه وعن اسراره💀

    وجا فبالي شي! اتذكر كلام كاريان عن ان لعنة الظلام تؤثر فيه وانه يحتاج يدمر شي ويطلعها، وتذكرت اتريوس لما شافته جلنار في الغابة وكانت مدمرة، مادري اذا هو نفس الشي ولا انا اهبد بس جا فبالي وقلته
    بس اذا كان اريبوسي شلون يقدر يتحكم في لعنة الظلام هذي؟

    🎀 المهم اتريوس يبقى اتريوس ما تفرق 🎀

    ردحذف
  22. عااااااااااااا الكتاب والبوابة وتدريبات جلنار ويوجين!!!! رهههييببببب مممررهههه 😭
    وقدرتها الجديدة "الجليد" وهيئة الرياح اسطوريييهه

    حبيتتت يوجين اسطورتي بدأ يتحكم بقوته كمانن

    ردحذف
  23. الفصل ده خلاني احلم و اكتب سيناريوهات شهور في اول مرة شفته بجد جوايا كمية صياح داخلي من الفصل ده

    ردحذف
  24. اهياني من أخر جزء في الفصل ده💔💔

    ردحذف
  25. حماااااااس لدرجةةةة🩷🔥🔥

    ردحذف
أحدث أقدم

نموذج الاتصال