الفصل الاربعون | أربعة بيادق ولاعب

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

إفصاح: "اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ الهُدَى وَالتُّقَى، وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى".

إفصاح آخر "قف دون رأيك في الحياة مجاهدا...... إن الحياة عقيدة وجهاد". أحمد شوقي

 مساحة لذكر الله

****************************************

الفصل الاربعون والثلاثين


أظلمت السماء تزامنًا مع اقتحام الفرسان لمنزلهم، أخذت أصوات تذمراتهم تعلو في استياء نتيجة التعب والجوع بعد يوم طويل. 

"أحتاج للطعام!" لافيان صرخ ما إن رأى المطبخ أمامه، لكنه تلقى صفعة قوية على مؤخرة رأسه تبعها صوت واندر الحاد "اطلب بأدب!". نظف حلقه وقد وقف بانضباط، وجهه موجه للأسفل وطلب بنبرة منخفضة "أعتذر، أيمكنني الحصول على بعض الطعام من فضلك، سيدة واندر؟". 

رمقته بطرف عينها وتمتمت "أهوج". 

بدلت واندر نظرتها لأخرى لطيفة قبل أن تصيح بهم "اجلسوا بسرعة! اللحم المدخن ينتظركم مـ..." لم ينتظر أحد انتهاء جملتها لأنهم ركضوا في سباق بينهم وبين بطونهم نحو الطعام، تنهدت واندر بيأس وهمست "أتمنى ألا يأكلوا الأطباق أيضًا". 

أرتيانو أخذ نظرة ازدراء نحو الجميع قبل أن يتمتم بـ "همج" ويمشي بطبيعية نحو المائدة قبل أن يجلس في مكانه ويتناول طعامه محافظًا على كل آداب المائدة. 

"لقد كنا رائعين اليوم، أريد أن أرتاح لأسبوع قادم يا رفاق. التدريب الجحيمي انتهى أخيرًا!" صاح زوندي وهو يرمي رأسه فوق كتف تينر جام الذي ابتسم وربت على كتفه. "زوندي محق، عليهم تركنا لنأخذ راحة من كل هذا، خاصة وأن كل شخص قد تطور بالفعل" لافيان أكد على حديث زوندي وهو يحاول التنفس لكونه تناول الكثير وابتلعه في وقت قصير. 

"انتهاء التدريب لا يعني بداية الراحة، أتمنى لو أن فترة التدريب تلك تطول، أنتم سُذجٌ! ألا تعلمون ما الذي يترتب على انتهاء تدريباتنا؟" الجميع نظر نحو أغدراسيل الذي تنهد بتعب بعد جملته.

"ماذا تعني؟" سأل جوزفين مرتعبًا ليجيبه أوكتيفيان بشفافية "يعني أن التدريب كان يؤهلنا للحرب، لا للراحة. منذ يوم الغد نحن رسميًا سيتم طلبنا في أي وقت لأرض الميدان، ولأننا جاهزون لن ننتظر أن يتحرك جنود الإريبوس، بل سنتحرك نحن وسنأخذ الخطوة الأولى. المعسكر يشارف على الانتهاء، وهذا يعني أننا لن ننتظر أكثر لنحرر أرض نورث. منذ يوم الغد؛ نحن محاربون رسميًا".

الجميع تبادل النظرات مع انتهاء حديث أوكتيفيان، ثونار ألقت رأسها على الطاولة بقوة وهي تبكي متذمرة. 

"حسنًا، توقفوا. فليرفع الجميع رأسه" اتجهت الرؤوس كلها ناحية جلنار التي ضربت الطاولة بكف يدها بخفة وأخذت نفسًا قبل أن تبتسم بإشراق في محاولة لتشجيعهم وتردف "لقد تأهلنا! انتهت الفترة السهلة، وسنبدأ في خوض أيام حاسمة، لكن تذكروا أن كل يوم نتحرك فيه ونحاول إنهاء هذه الحرب نبطئ الخطر الذي قد يمس أوطاننا حتى نمنعه تمامًا. الخطر الآن على أرض الإلترانيوس، وغدًا سيكون على أرض الساحرات وبعده سيكون على أرض كل شخص منا، حتى يصل لوطني والذي هو أبعد نقطة، وحينها سنتمنى لو لم نتقاعس يومًا ولم نشعر بالتعب والتكاسل… اليوم الذي قد يكون متعبًا لنا سيكون مريحًا لقلوب أولئك الأشخاص الذي ينتظرون بصبر ليعودوا إلى بيوتهم، اليوم الذي لن يشعروا بالخوف فيه".

رؤية وجوههم تتبدل للتعجب والحماس شجعتها للابتسام أكثر والقول بثقة "سنقلب موازين العوالم، وسنجعل كل فرد يظن أن الفرسان خطأ من التوبازيوس يهتف باسمنا، أنا واثقة في هذا الفريق الذي بإمكانه التعاون بالرغم من كل الفروق والرغبات في قتل بعضنا البعض، اليوم فقط تأكدت من هذا". الضحكات ملأت المائدة وأنارت وجوههم مجددًا حتى أن بعضهم ربت بقوة على ظهر صاحبه بتشجيع.

بابتسامة مرتاحة أكملت جلنار طعامها وعينها تجول على الفريق الذي يجب عليها قيادته. هي لن تفوز في هذه الحرب وحسب، هي ستنهي كل شيء سيء هنا ثم تعود إلى الأرض، إلى عائلتها. بدأت توقن أن مهمتها لا تقتصر على حرب الإريبوس، الممالك كانت تحتاج لشخص خارج إطار هذا النظام الكارثي، شخص لا يصدق الجميع بوجوده كالبشر، لا تنطبق قوانينهم عليه ولا تقاليدهم، شخص خارج عن النصوص تمامًا. 

توقفت عينها عندما وقعت على أتريوس الذي يريح ظهره على المقعد ويحدق بها بابتسامة صغيرة، رفعت حاجبها نحوه ليريح رأسه فوق كف يده دون إبعاد عينه عنها لتدحرج عينيها وتضع تركيزها على طعمها. 

واندر راقبتهما بابتسامة حاولت تخبئتها بصعوبة قبل أن تهمس "المعجزات تحدث دائمًا من حيث لا نتوقعها".

"بالحديث عن ما حدث اليوم، جلنار! لقد تمكنتِ من استعمال أربعة عناصر، الوحيد الذي فعلها كان الملك سافيينج، ولكنه لم يتمكن أبدًا من استخدامها في الوقت ذاته، لقد كان الأمر أشبه بعاصفة من العناصر مجتمعة، أنا متأكد أنكِ تركتِ أثرًا في أذهان أطفال الأكاديمية" صاح جوزفين ليومئ الجميع "أعترف، فكرة الاتصال كانت ذكية" أرتيانو مدح ولم يكلف نفسه برفع عينه نحوها، ولكنه تسبب بارتفاع حواجب بعضهم باستغراب "لقد استلهمتها من الأفلام التي نشاهدها في وطني، دائمًا هناك فريق يضعون سماعات صغيرة للتواصل" رفعت كتفها في النهاية.

"فكرة جيدة، لنستعملها أثناء القتال، حينها يمكننا أن نعرف ماذا يحدث مع الجميع" علق أغدراسيل ليومئ الجميع موافقًا. "توقعت أن يتحول هارليك إلى عملاق ضخم في قتالنا" أشار لافيان بملعقته نحو هارليك قبل أن يحشرها داخل فمه ليتوقف الأصغر عن تناول الطعام ويرفع عينه نحو لافيان.

"أتمزح معي؟ أم أنك تريد التخلص مني؟ أخبرني ما رد فعلك إن رأيت عملاقًا ضخمًا يظهر فجأة أمامك؟ لا أحد يعلم أن أحد العمالقة أصبح عاقلًا، والجميع بما فيهم الحكيمة سيحاولون قتلي لأنهم سيظنون أني خرجت عن السيطرة، وحينها لن يستمعوا لي وأنا أحاول توضيح أني لست مجنون"

طرف لافيان بإدراك وانفجر رومياس وزوندي وتينر جام في الضحك "هذا بديهي أيها الأحمق، ألم تفكر فيه؟" سخرت ثونار وارتشفت من كأسها الضخم الممتلئ بالبيرة. 

"لكنك أبليت حسنًا حتى دون تحول" أغدراسيل مدحه، لكن هارليك رفع نحوه حاجبًا وقال ببرود "لقد كنت واضحًا عندما قلت أني غاضب منكم، خاصة أنت والسيد هنا" أوكتيفيان توقف عن تناول طعامه ورفع حاجبًا نحو هارليك وقال بلهجة استنكار "السيد هنا!" أومأ هارليك ولم يغير جملته "ماذا؟ هل أغضبتك لهجتي؟ فهذا تمامًا ما فعلته صباحًا، ولم تكلفا نفسيكما بالاعتذار منا، لقد اعتذر الآخرون، لكن أنتما خاصة لا تتحدثا معي". 

اتسعت أعين المقصودين بالحديث، ونظر أغدراسيل نحو جلنار وثونار بصدمة "أنتما أيضًا غاضبتان مني؟" جلنار ابتسمت وحركت رأسها للجانبين "بالنسبة لي؛ لست أنت الشخص الذي قد أغضب منه" رمقت أوكتيفيان في نهاية جملتها ليزفر الأخير بضيق. 

"أنا أريد اعتذارًا" عكس جلنار، ثونار قالت وهي تنظر نحو الاثنين بلا مبالاة. "أنا فقط كنت قلقًا على ثلاثتكم، ماذا إن خرج الأمر عن السيطرة وقام هارليك بإيذاء كليكما أو العكس؟" اتسعت عين هارليك وقد أدرك أن قلق أغدراسل في محله نوعًا ما، لكن أغدراسيل ابتسم وأقر بخطئه قائلًا "لكن كان علي إيضاح الأمر بهدوء، أعتذر من ثلاثتكم". 

هارليك لم يتمكن من المكابرة، فابتسم باتساع وأومأ نحو أغدراسيل.

"سأسامحك هذه المرة فقط لأنك تبدو وسيمًا بهذا الجرح على فكك" ثونار قالت ليضحك الجميع ويد أغدراسيل اتجهت نحو جرحه الذي أصابه في قتال اليوم وابتسم. 

الجميع نظر نحو أوكتيفيان الذي لم ينظر لهم في المقابل. "ألا تظن أن عليك قول شيء ما؟" تغيرت نبرة ثونار وأحد حاجبيها ارتفع للأعلى "لن أعتذر؛ إن كان هذا ما تقصدينه" اجتاحها الغضب والدهشة لعجرفته وكبريائه وأرادت إلقاء شيء ما نحوه لكسر رأسه "وما زلت أصر على أن فعلتكم كانت متهورة وكانت لتقتلكم".

تنهيدات خرجت من أفواه الغالبية؛ فلم يتوقع أحد أن أوكتيفيان قد يعتذر لأحد، حتى بالرغم من تأكيده على أن جلنار هي القائدة، لكنه عنيد جدًا ليعتذر. 

عندما نهض من مكانه بعد إنهاء طبقه تحرك وقد وضع طبقه في المطبخ واتجه للسلالم، ولكن جلنار أوقفته بجملتها "لا ألومك على غضبك؛ فقد كان متوقعًا، ولن أطلب اعتذرًا لخوفك على هارليك، أريد اعتذارًا لتلميحك المستمر وشكوكك التي لا تنتهي، وكأنني خائنة أو شخص لا يستحق أن يكون ضمن الفريق، لا يحق لأحد الاستخفاف بأي فرد في هذا الفريق".

"لم أقل يومًا أنكِ خائنة!" التفت نحوها بحاجبين معقودين وقد علت نبرته لتكتف ذراعها قائلة "الأمر أوضح من أن تقوله بفمك، وكأن الأمر يجري في دمائك!" ارتفع حاجبيه وهو ينظر نحوها بصدمة استنكرتها جلنار، جملتها لم تكن بتلك القوة!

ارتخى حاجباه ووضع يده داخل جيبه والتفت، وقبل أن يصعد قال على مضض "كان خطئي!". 

"هل سيقتله الأمر إن اعتذر؟" سخرت ثونار وهي تنظر حيث كان يقف بغيظ "إنه أوكتيفيان! أتعتقدين أنه سيقف وينحني معتذرًا؟" سخر منها جوزفين وأومأ زوندي موافقًا. "فقط اتركوه يفعل ما يريد" قال تينر جام رافعًا كتفيه. 

ظلت عينَي جلنار ثابتة حيث كان يقف أوكتيفيان قبل قليل، هناك شيء يدور حوله، شيء ما قالته كان سيئًا جدًا، حتى أنه أعطى رد الفعل الباهتة تلك! لكن لا يمكنها إيجاد شيء شخصي في حديثها ضد أوكتيفيان. 

....


وضعت كأسها فوق المائدة التي أصبحت فارغة في هذا الوقت، خاصة وأنه منتصف الليل والجميع يستريح في غرفته. 

امتلأ الكأس مجددًا لتشربه في رشفة واحدة، الشرب بهذه الطريقة كانت لتكون قاتلة لأي شخص طبيعي، لكن جسد ثونار صنع مناعة ضد الكحوليات لكثرة شربها، حتى أنها تجد صعوبة في جعل نفسها ثملة. 

أخذت نفسًا تتأمل مقاعد الجميع الفارغة، ولو أن جلنار معها الآن كان ليكون الأمر أكثر متعة، بالرغم من أنها تمتنع عن الشرب فإنها تعرف كيف تجعل الوقت يمضي. فكرت في إيقاظها لتبقى معها حتى ينتهي ذلك الأرق الذي يصيبها، لكنها أقرت بإنها ستكون حقيرة إن أيقظتها بعد هذا اليوم المتعب. 

صوت الخطوات التي تهبط ببطء فوق السلالم جذبت انتباهها، فمالت بالكرسي تحاول رؤية من قد يستيقظ في هذا الوقت كما تفعل. 

رفعت حاجبًا عندما شاهدت جوزفين يسير بأعين شبه مغمضة يصطدم بكل شيء يقابل وجهه ويتعثر بكل ثانية، راقبته وهي تجلس في الظلام باستمتاع بينما يترنح ويحاول الوصول للمطبخ، وقف لثانية حتى يتوازن ويعود وعيه قبل أن يلتقط زجاجة من الماء ويشرب نصفها. 

"كابوس أم أرق؟" أجفل وبصق المياه بفزع لتنفجر ثونار في الضحك، تنهد ومسح شفتيه ثم ألقى الزجاجة الفارغة في سلة النفايات "بل عطش" أجاب بانزعاج من ضحكها المستمر. "ما الذي تفعلينه في هذا الوقت وحدك؟" رفعت كأسها الممتلئ نصفه أمام عينه كإجابة. 

"حقًا؟ تشربين وحدك في هذا الوقت من الليل!" استنكر فرفعت كتفيها دلالة على لا مبالاتها، دحرج عينيه لطريقتها المعتادة والتفت ليصعد مجددًا لغرفته متمتًا "على كل حال؛ احظي بليلة جيدة" راقبت حركته في تردد و فتحت فمها أكثر من مرة، وعندما كاد يصعد نادت اسمه.

التفت نحوها باستفهام لتضع الكأس فوق الطاولة وتثبت عينها على حافته. "ماذا هناك؟" تنهدت ونظرت نحوه بطرف عينها، لا تزال مترددة حول هذا الأمر. "ثونار؟" رفعت رأسها نحوه وهمست بـ "لا تهتم". 

راقب تصرفاتها لينخفض كتفيه ويضع ابتسامة صغيرة، تحرك نحوها وأخذ المقعد المقابل لها على المائدة "ما الذي تردين السؤال عنه؟" ابتلعت وعادت تلك الصور السريعة داخل رأسها، جوزفين بدا عالمًا بأي موضوع يجعلها تشعر بهذا التردد والتشوش ولم يبدُ منزعجًا! 

"ثونار، فقط سَلي، ما الذي يـ..."

"من الذي قمت بقتله لتشعر بكل هذا الذنب؟"

اتساع طفيف في عينه دفعها لعض شفتيها بندم "لست مضطرًا للإجابة، إنه ليس من شأني ولسـ...." توقفت وهي تلاحظ ملامحه الساخرة نحوها "ما الذي رأيته بالضبط ذلك اليوم؟" نظرت بعيدًا عنه نحو الكأس وأناملها تدور على حافته "دماء، صراخ، فزع، بكاء، أمطار، موت و..." رفعت عينها نحو جوزفين الذي راقبها بهدوء "مرتفعات!".

ثبتت عينها على عينه كما فعل في المقابل، لكنه استسلم في مسابقة التحديق وزفر قبل أن يرفع شعره المبعثر منذ البداية. "لنلعب لعبة صغيرة" رفعت حاجبها باستغراب "ألا تحبين هذا النوع من التسلية؟" رفعت زوايا شفتيها في ابتسامة جانبية وتسألت إلى أين تتجه هذه المحادثة بالظبط، لكنها قالت "قل ما عندك".

"سؤال مقابل سؤال، تملكين سؤالًا واحدًا وأمتلك سؤالًا واحدًا. القانون الوحيد هو الصراحة" ضحكت قبل أن تسأل بخبث "إذًا حتى أنت تشعر بالفضول نحوي؟" أراح ظهره للمقعد مجيبًا "ساحرة ولدت وحدها دون تسعة وتسعون ساحرة أخرى، مجتمع الساحرات كله يكرهها وتملك قوة مضاعفة لأي ساحرة تستعمل البرق، من منا لن يشعر بالفضول؟". 

حدقت به بابتسامة بسيطة أشبه بوجه البوكر، ولكنها داخليًا كانت تحاول وزن الموضوع بالكامل. فضولها سيقتلها، ولكن في المقابل ربما سؤاله سيكون سيئًا وستورط نفسها بالإجابة، لكن ما الذي قد يكون أقوى من القتل؟

في النهاية استسلمت وأومأت موافقة "أجب عن سؤالي إذًا! من الشخص الذي قمت بقتله؟" حارب بشدة في هذه اللحظة حتى يتمالك نفسه ووضع تعبير البوكر ذاته على وجهه مع ابتسامة صغيرة وقال:

"أخي"

كان ثونار أول من أسقط تعبيره الهادئة لتتسع عيناها بصدمة، اعتدلت في جلستها وهي تحدق بوجهه تبحث عن الفكاهة في هذه الإجابة "لحظة! أتعني أن ابن ملك المتنكرين البكر لم يمت في حادث؟" اتسعت ابتسامته وقال "لقد قلت سؤال واحد، إنه دوري الآن". 

عقدت حاجبيها بضيق؛ فالإجابة التي كانت تبحث عنها لإرضاء فضولها زادت الأمر سوء، بل وإنه لم يترك لها فرصة لاستيعاب أنها عرفت للتو واحد من أسرار مملكة كبيرة؛ فالجميع يعلم أن موت الأمير البكر ووريث العرش كان حدثًا.

مالت شفتيها بانزعاج طفولي ليقهقه ويميل فوق الطاولة ليقابل وجهها "أجيبي بكل صراحة، لمَ تكرهك ملكة الساحرات للحد الذي يدفعها لمحاولة قتلك؟". 

ارتفع حاجبيها في ثانية وسألت ببرود مزعج "كيف عرفت أنها حاولت قتلي؟" نظر بعيدًا يتظاهر بالتفكير "ربما لأني أمير ولأن سلطتي تتعدى الحدود العادية ويمكنني معرفة أي معلومة يتم تهريبها؟" غمز بابتسامة جانبية قبل أن يصر "أجيبي عن السؤال، مالذي فعلته لتكرهك لهذا الحد؟" تضايقها ازداد وشعرت أنه كان ينتظر هذه الفرصة منذ مدة وهي منحتها له كالغبية.

"لأنني إن طالبتها بالعرش اللعين ستتنازل شاءت أم أبت"

لم يتوقع إجابتها بالمرة، ظن أنها قتلت شخصًا ما أو قامت بجرم محرم، لكن يبدو أن الأمر أكبر من هذا. "أي أنكِ الملكة؟" اتسعت ابتسامتها وقد وجدت فرصتها لاستفزازه "اتفقنا على سؤال واحد، إلا إن كنت مستعدًا للإجابة على أسئلة أخرى". لم يكن مستعدًا للبوح بما هو أكثر من هذا، ولا يزال يظن أن إخبار ثونار ليست بالخطوة الجيدة، ولكنه فعلها في النهاية؛ فمتعته أكثر أهمية من رؤيتها تموت فضولًا. 

"تصبحين على خير، ثونار" طرق الطاولة بخفة قبل أن ينهض من مكانه ليعود لنومه، بالرغم من أنه ليس متأكدًا من إن كان سيتمكن من النوم مجددًا؛ فثونار هذه الفترة تسبب تزاحم الكثير من الأفكار والذكريات السيئة داخل رأسه.  

.... 

صباح اليوم التالي كان تمامًا كما توقع أغدراسيل، من ذكر طعم الراحة؟ فالمملكة لن تمنح الفرسان شيئا إلا الأحداث المرهقة جسديًا ونفسيًا، وأولها كان صياح واندر بهم حتى يستيقظوا؛ فرسالة من القصر الملكي قد وصلت. 

بعضهم نهض يترنح ويكاد يسقط في أي مكان ليعود للنوم، والبعض الآخر كان مستيقظًا منذ نور الفجر الأول؛ كأرتيانو الذي كان يقضي وقته في المكتبة، و أغدراسيل الذي درب أجنحته وأقدامه، وأوكتيفيان الذي كان يتدرب بعيدًا عن أعين الجميع في الغرف الخاصة بالتدريب داخل المنزل. 

جلنار كانت من المستيقظين باكرًا أيضًا؛ فقد اكتسبت هذه العادة وأصبحت تستيقظ وحدها مع طلوع الفجر للركض حول المكان ومحاولة إتقان كل عنصر تقوم باستخدامه، خاصة أن الماء والهواء ما زالا أضعف عنصرين تستخدمهم في الوقت الحالي. 

اجتمع الجميع حول واندر التي أمسكت بظرف خمري اللون ذي ملمس قوي وفريد، وكتابة ذهبية اللون بخط جميل كانت على الوجه الخلفي من الظرف وقد كتب عنوان الفرسان، كانت موجهة للجميع، لا لمجموعة منهم. 

الظرف من جهته الأمامية حمل رمز المملكة الذي رأته جلنار من قبل على كتاب 'ممالك التوبازيوس' الدرع والسيفين والإحدى عشر دائرة متصلة بالدائرة الكبيرة في المنتصف. 

الختم الشمعي كان يحمل الشعار ذاته، ولكن بحجم أصغر. تبادل الجميع النظرات ولم يأخذ أحدهم الظرف لتتقدم جلنار وقد قررت هي أخذه؛ فسبقها أغدراسيل ومازح قائلًا "لا نريد تمزيق دعوة ملكية مجددًا". 

دحرجت عينها مبتسمة وكتفت ذراعيها تنتظر منه فتح الظرف. 

أخرج الورقة المطوية بعناية ووضع الظرف جانبًا، الورقة كانت ذات لون غامق وحبر ذهبي. "اقرأها بصوت عالٍ!" صاح جوزفين بنفاد صبر ليمرر أغدراسيل عينه على السطور قبل أن يقرأها.

" هذه دعوة رسمية موجهة من سمو جلالة سموها الأميرة روليان إليفندار سافيينغ: 

تتشرف سمو الأميرة بدعوة فرسان التوبازيوس الاثني عشر إلى القصر الملكي لاجتماع خاص، يحضره كل من قادة العائلات النبيلة الخمس والحكيمة ساريل لتقديم الفارسة الثانية عشر 'جلنار روسيل' رسميًا والنقاش حول الخطط المستقبلية للحرب القائمة ضد الإريبوس. 

مع خالص الشكر:

جلالة الأميرة روليان إليفندار سافيينج"

رفع أغدراسيل نظره نحو الجميع والذين بدورهم نظروا لجلنار، الأخيرة أغلقت عينيها وأخذت نفسًا قبل أن تنظر لهم "أسياد العائلات النبيلة الخمس!" أومأ الجميع بحذر لتبتسم بجانبية "هذه ستكون مجزرة على الأغلب" لم يقاوم بعضهم الضحك والبعض الآخر ظل قلقًا حول ما قد يحدث. 

"غالبًا سيكون اجتماعًا قصيرًا لإخبار الجميع عن وجود بشرية كفارسة للنبلاء" أوكتيفيان علق قبل أن يوجه عينه نحو جلنار ويحذر "دعي الأمر يمر بسلام، مهما حدث لا تناقشيهم في شيء" لم تنظر نحو أوكتيفيان حتى وظلت تدندن ليعقد حاجبيه قائلًا "هل فهمتِ؟" نظرت نحوه بطرف عينها قبل أن تجيب بلا مبالاة "أعتذر، توقفت عن الاستماع عندما وصلت لكلمة سلام، هذه مشكلة النبلاء ليست مشكلتي".

حدق بها الجميع مندهشين قبل أن ينفجر لافيان وزوندي في الضحك، توقف الجميع فجأة عندما لاحظوا السوار حول معصم كل منهم ينير بالأحمر مجددًا، تنهدت جلنار ولمست سوارها وهي تحارب الرغبة في الشتم؛ فما زال اليوم في بدايته. 

"لقد وصلتكم دعوة سمو الأميرة بكل تأكيد في هذا الوقت، بعد غروب الشمس أتمنى أن أراكم جميعًا في القصر العظيم، تصرفوا بشكل لائق وحاولوا ترك انطباع جيد عنكم، خاصة وأن سمو الأميرة ستكون حاضرة، ارتدوا ملابس رسمية ولا تختلقوا المشاكل"

توقف صوت الحكيمة وانتهى التسجيل لتزفر جلنار وتنظر نحو أتريوس الذي لم يكلف نفسه بسماع التسجيل حتى؛ فقد كلف نفسه مهمة تناول الطعام قبل الجميع. "ألن تسمع رسالتك؟" رفع عينه نحو جلنار ليبتلع ما في فمه ويجيب "دعيني أحزر، تخبرنا بهراء عن التصرف بشكل جيد والحضور مبكرًا وارتداء ملابس رسمية؟" رفعت حاجبها بدهشة "ليست المرة الأولى لنا، إنها كذلك لكِ" قال مشيرًا لها لتأخذ الكرسي بجواره وتضع رأسها فوق الطاولة وتحدق به. 

"لا يمكنني التواجد مع نبيل عادي في غرفة واحدة دون التفكير في قتله، الآن علي البقاء مع خمسة وهم القادة أيضًا، على التفكير في حل لهذا" رفع حاجبًا وقال "التفكير في طريقة لقتلهم دون أن يعرف أحد ستكون سهلة" لم يكن هذا الحل الذي تقصده جلنار، لكنها لا تزال فكرة جيدة. 

"إن كتبنا قصة حياته فسيكون عنوان الكتاب القتل مرفوعًا للأس خمسة" ارتفعت عينها نحو يوجين الذي حلق نائمًا على ظهره نحوها "بالرغم من أن قتل ذوي المؤخرات اللامعة فكرة مذهلة في الواقع" أعقب بعدها لتبتسم نحوه. 

"سيكون كل شيء بخير" ربت أغدراسيل على كتفها وأخذ أحد الشطائر الموجودة على المائدة "لا، لن يكون. نبلاء وأميرة وفرسان، خاصة مع المقطع المنتشر لها، سيكون الأمر فوضى" أغمض عينه بنفاد صبر قبل أن ينظر لأتريوس بانزعاج "قل شيئًا جيدًا أو أصمت، ويفضل أن تصمت للأبد" زم شفتيه وتظاهر بالتفكير قبل أن يقول ببراءة "الصراحة شيء جيد، ستسمع صوتي حتى تموت" لكزته جلنار بقوة ليصمت، ولكنه كان مستمتعًا باستفزاز أغدراسيل. 

قبض الأخير يده فوق كأسه بقوة وهو يحاول ألا يجاري حركات أتريوس الصبيانية. 

بعد انتهاء الفطور تحركت جلنار بعيدًا عن الجميع للمكتبة ويوجين تبعها باستغراب "ما الذي ستفعلينه؟". توقفت أمام الأرفف ونادت باسم كاليسيو قبل أن تنظر ليوجين "إن كنا سنواجه الإريبوس فعلي معرفة المزيد عنهم، ألا تظن ذلك؟" حرك رأسه وتمتم "فكرة جيدة". 

كاليسيو لم يستغرق وقتًا قبل أن يظهر وينحني باحترام نحو جلنار. "عن ماذا تريدين القراءة اليوم؟" سأل بابتسامة فأجابت "أريد أكثر الكتب اختصارًا وشمولًا عن الإريبوس" ارتفع حاجب كاليسيو لثانية قبل أن يغمغم وهو ينظر للرفوف من حوله "لا نملك الكثير عنهم، ولكن…" حرك يده في حركة سريعة لتنتقل ثلاثة كتب من بين الرفوف وتقع بين يدي جلنار.

"أظن أن هذه الثلاثة ستكون أكثر إفادة لك" شكرته وتمنى لها نهارًا سعيدًا قبل أن يختفي كعادته بين الرفوف.

حدقت بالكتب ذات الأغلفة الغامقة وألقت جسدها فوق الأريكة ولم تحاول فتح أحدها. "ماذا؟ تعلمين أنها ليست شاشة ستعرض لكِ المكتوب! عليكِ فتح الكتاب" تنهدت ونظرت ليوجين بتردد "ماذا إن اكتشفت أن كل شيء عن الإريبوس كذب ككل شيء آخر؟". 

حدق بعيدًا لفترة قبل أن يرفع كتفيه مجيبًا "سنحاول تصحيحه! كما تفعلين مع كل شيء آخر" حركت رأسها بخفة "هذا مختلف تمامًا" تمتمت وهي تتفحص الكتب بين يدها.

في النهاية فتحت الكتاب الأول وبدأت في قراءته ويوجين يتابع بجانبها. 

"شعب الظلام! يعيش في الظلام ويستمد قدراته منه، الضوء والحرارة قد يكونا مؤذيين لهم في بعض الأوقات، وهذا لأن الشمس تشرق على كوكبهم مرتين خلال السنة، الضوء نقطة ضعف وقوة لأنه يمكنهم من التحكم في الظلال، أرضهم ذات مناخ بارد متجمد ولا تؤثر البرودة العالية بأجسادهم، يمكنهم التحول لهيئة ضبابية أشبه لضباب أبيض والتخفي في الظلام، قوتهم البدنية كبيرة جدًا؛ فيمكنهم قتل المئات في دقيقة لسرعة حركتهم..." 

صفحة بعد الأخرى، كانت هناك صور توضيحية وشرح مختصر، وما تمكنت جلنار من فهمه أن قدرتهم كانت تكمن في التحول لضباب أبيض والتحرك بخفة وسرعة قبل أن يعودوا لهيئتهم الطبيعية ويقتلوا العدو، السحر المحرم الذي استخدمه ملكهم لوكيان حولهم لهيئة سوداء ما إن تمر بالجسد تحوله إلى رماد كما قال أتريوس.

وضعت الكتاب جانبًا وتناولت الآخر الذي تحدث عن قوانينهم وطبقاتهم الاجتماعية واحتفالاتهم وتقاليد شعبهم، وأشارت لصفحة داخل الكتاب تجذب انتباه يوجين لها "نظامهم الاجتماعي مختلف تمامًا عن الإلترانيوس، إنهم فقط طبقة حاكمة وطبقة عاملة والفرق بينهم ليس كبير؛ فالطبقة الحاكمة تُحاسَب على أموال المملكة وشعبها، إن قدم أحد المواطنين شكوى لمكان يسمى 'المقاضاة العادلة' فهناك قاضي المملكة والذي يمكنه الحكم على الملك ذات نفسه، ولكن إن صدق على حكمة عشرة حكماء بعد الاستشارة فيما بينهم".

نظر يوجين للسطور المكتوبة في الكتاب قبل أن يرفع عينه نحو جلنار "كانوا كذلك، الآن ربما لا يوجد شعب ليشكو، ربما قتلوا أو ماتوا في المنفى ولم يبقَ سوى الجنود الذين أصابتهم اللعنة، أو ربما أحياء، ولكنهم جميعًا يتمنون قتلنا" رفع كتفيه في النهاية، بالرغم من أن الأفكار التي طرحها يوجين سوداوية، ولكنها تبدو منطقية وهذا ما ضايق جلنار لتصرف انتباهها عنه وتكمل قراءتها. 

أغلقت الكتاب في النهاية واستلقت على المقعد بملل "القراءة عنهم تجعلني أشعر بشيء سيء، أريد إغماض عيني وفتحها لأجد كل تلك الفوضى قد تم الاهتمام بها وانتهت، كل شيء يبدو مسالمًا من الخارج، ولكن ما إن تتعمق في التاريخ تجد أن حرب اليوم ما هي إلا نتيجة تراكمات من قذارة الماضي". 

التقط يوجين الكتاب الأخير وألقاه فوقها قائلًا "أظن أن هذا الكتاب مثير للاهتمام؛ فعنوانه 'السحر المحرم'. توقفي عن التذمر؛ فالمجيء إلى هنا كان فكرتك" رفعت الكتاب إلى مستوى نظرها تحدق بالعنوان المزخرف.

الكتب السابقة لم تتحدث عن السحر الذي أوقع اللعنة على الإريبوس أو نفيهم وما له علاقة بما يحدث حاليًا. فتحت الكتاب وقلبت صفحاته لتتفحصها، اعتدلت في جلستها ما إن لمحت بعض الرسوم المختلفة والغريبة في الكتاب وجمل جذبت انتباهها فبدأت بتصفحه بتأني. 

صفحة، اثنتان، ثلاثة وحتى المائة، جلنار قرأت في صمت مع حاجبين معقودين، حتى أنها لم تنتبه لأرتيانو الذي دخل للمكان وحدق بها لثوانٍ قبل أن يتحرك نحو الأرفف ويجلس في أبعد نقطة عنها. 

وضعت الكتاب فوق الطاولة أمامها وارتفعت عينها نحو يوجين الذي لم يصل بعد للنقطة التي قرأتها جلنار "هناك شيء خاطئ!" نظر نحوها لتعيد هي قراءة السطور مجددًا وترفع عينها نحو يوجين "أتتذكر القصة التي يتلوها الجميع عن خيانة شقيق ملك الإريبوس لوكيان؟" حاول التذكر قبل أن يقول:

"تقصدين ما حدث مع أبناء هوملك؟ بعد موته، ابنه مالكي أصبح الملك وفي المقابل شقيقه لوكيان شعر بالحقد عليه فقام بخداعه لإيقاعه من على العرش" أومأت جلنار وحاولت الشرح "بعد انتهاء الحرب تنصب جولديان ملك لإلترانيوس وهوملك ملك للإريبوس، وبعد أن توفي الاثنان تولى أبنائهم الحكم، ابن جولديان كان نورمي وابن هوملك مالكي، كانا صديقين حتى تدخل شقيق مالكي وحاول الإيقاع بهما، وحينها قتل نورمي ملك الإريبوس مالكي، وعندما اكتشف الخدعة قرر قتل لوكيان ليتم قتله بواسطة لوكيان و ابن الملك المنزوع بعد الحرب تورتسيان". 

أومأ يوجين وقد تذكر القصة كلها "أجل، وبعد ذلك تورتسيان قام بالغدر بلوكيان قبل أن يُغدر به وأوقع به وأقنع الجميع أنه من قتل ملك الإلترانيوس نورمي وهو من أوقع بين الملكين سابقًا وبرأ نفسه من الشبهات" أكمل يوجين قبل أن ينظر لجلنار ويسأل "ما المشكلة إذًا؟".

أشارت جلنار لأحد السطور وقالت "مكتوب هنا: عندما قُتل ملك الإريبوس مالكي كانت هناك فرقة مساعدات خاصة قد أرسلها الملك نورمي لمساعدة الإريبوس، ولكن لم يعلم أحد أن تلك البعثة كانت هنا لقتل الملك والقاضي والحكماء العشرة".

رفع يوجين كتفيه مستنكرًا "حسنًا، ثم؟ لقد ذُكر أن نورمي قتل مالكي بسبب المكيدة التي أوقعها فيه لوكيان" حركت جلنار رأسها للجانبين "المكيدة كانت إقناع مالكي بإقامة الحرب، وحينها يتم مقاضاة مالكي بتهمة نقض المعاهدة بينهم، لماذا سيقوم نورمي إذًا بإرسال بعثة متخفية؟ ولماذا سيقتل القاضي والحكماء العشرة؟ العقوبة تقع على الملك وحده، هذا اغتيال وليس عقوبة، لمَ لم تشارك الممالك كلها في الحكم على مالكي بالموت؟ لمَ فقط نورمي من قام بقتله؟".

صمت يوجين يحاول إيجاد النقطة المخفية في كل هذه الأحداث "انظر، مكتوب هنا أيضًا أنه بعد موت مالكي عاد شقيقه لوكيان إلى مملكة الإريبوس، حيث أنه كان في رحلة لمملكة العباقرة منذ سنين طويلة، كيف قام لوكيان بإقناع مالكي بإقامة الحرب وهو بعيد عن وطنه؟ وكيف سيقوم بمؤامرة اغتيال كهذه وهو غير موجود؟" يوجين ابتسم ابتسامة جانبية وأجاب "أظن العكس، وجوده خارج المملكة يضعه خارج الصورة تمامًا ولن يشك أحدهم به".

زمت جلنار شفتيها تفكر بهذه النقطة "لحظة! لقد تذكرت شيئًا ما، ألم تقل واندر أن من اكتشف مؤامرة لوكيان كان أحد جواسيس نورمي؟" أومأ يوجين موافقًا لتندفع جلنار نحو أحد الكتب التي أنهت قراءتها سابقًا وتفتح صفحة معينة وتقرأ بصوت مسموع "استطاع ملك الإلترانيوس نورمي اكتشاف مؤامرة لوكيان من خلال القبض على أحد معاونيه في المؤامرة، ومن خلال الضغط عليه اعترف بخطة سيده لوكيان" ارتفعت عينيها نحو يوجين الذي ظل ينظر نحوها بدهشة.

"عندما تقرأ الكثير من التضاربات عن حدث تاريخي كهذا فاعلم أن هناك من يكذب" قالت جلنار واثقة وأغلقت الكتاب بقوة.

كتف يوجين ذراعية ونظر بعيدًا لمدة طويلة دفعت جلنار لتسأل عما يفكر "هناك شيء لست متأكدًا منه، مجرد فكرة عابرة، ولكن أتذكرين عندما تحدث زوندي عن تاريخ النبلاء؟ قال أن النبلاء كانوا فقط عائلتين وبسبب الطمع في الحكم استغل البعض العائلات التي تطمح لتصبح نبيلة، أتظنين أن النبلاء لهم يد في هذا أيضًا؟".

دلكت جلنار رأسها وكأنها ستتمكن من إزالة التشابك داخل عقلها، وفي النهاية أغلقت كتاب السحر المحرم وبحثت بعينها عن اسم المؤلف فوق الغلاف، لكنها لم تجد واحدًا.

 ووضعته فوق الطاولة بجوار الاثنين سابقًا "إن ظللتِ تتحدثين مع نفسك بهذه الطريقة سيظن الأشخاص أن هناك شيئًا غريب يدور حولك، بينما أنتِ فقط تملكين مشكلة في عقلك".

قفزت من مكانها والتفت لأرتيانو الذي تخطى جسدها نحو أحد الأرفف. "متى دخلت إلى هنا؟" سحب كتاب من بين الكتب وأجاب دون النظر نحوها "تبدين مغيبة عن الوعي عندما تقرأين، أنا هنا منذ ساعات". تبادلت نظرة سريعة مع يوجين، لكنها لم تسأل مجددًا فأرتيانو لم يتحدث عن أي شيء غريب.

"هل تصدق تاريخ الإلترانيوس؟" سؤالها المفاجئ جذب انتباهه لينظر نحوها بطرف عينه "الأحمق فقط من يصدق ذلك الهراء" رفعت حاجبًا وكادت تسأل مجددًا، لكنه تجاهلها وتحرك بعيدًا ليقرأ الكتاب الذي انتقاه. 

"لن يخبركِ بشيء إن كان هذا ما تتمنيه" قال يوجين مشيرًا حيث كان يقف أرتيانو قبل قليل لتنخفض كتفاها بيأس.

.... 

قضت جلنار بعض الوقت مع كارولوس تحاول تنظيم أفكارها قليلًا والابتعاد عن ضجة الفرسان داخل المنزل، راقبها التنين بينما تجلس مغمضة العينين وحولها فوضى من العناصر؛ فالصخور كانت تحلق حولها ببطء وشعل النيران تطفو بهدوء، والماء يظهر ويختفي بين الفنية والأخرى والهواء تتغير سرعة تياراته شيئًا فشيئًا. 

مال يوجين فوق كارولوس وكتف ذراعيه يراقب جلنار "إن قمنا بإزعاجها قد تقتلنا في هذه الحالة، صحيح؟". كارولوس نظر نحو يوجين قبل أن يأخذ خطوة للخلف معلنًا عن عدم رغبته في الاقتراب من جلنار.

"كم عمرك؟ إن كنت كائنًا معمرًا فلمَ لا تخبرنا بما حدث في الماضي؟ هل حقًا النبلاء لهم علاقة بكل هذا؟"

تحديق كارولوس بيوجين وكأنه شخص غبي دفعه لدحرجة عينه "أعلم أنك لن تتحدث، لكن… المعنى فقط أني حائر أيضًا، أتعلم؟ جلنار ستذهب للقاء النبلاء اليوم" نظر نحوها بطرف عينه قبل أن يتمتم "أتساءل؛ ماذا حدث؟".

"ربما المشكلة أنكما تنشغلان كثيرًا فيما حدث من قبل" التفت بسرعة نحو إليف الذي ظهر فجأة "ماذا تقصد؟" نظر إليف نحو جلنار التي اشتدت حركت العناصر حولها "أعني أن الحاضر أكثر أهمية، معرفة الماضي مهم لتجنب الأخطاء التي حدثت، لكن لا يعني هذا أن ننسى الحاضر".

كارولوس تابع إليف بحذر وكلما اقترب منه زمجر في وجهه "ظننت أنه بإمكاني أن أكون صديقًا لك أيضًا" علق بحزن مصطنع ليدير كارولوس رأسه بلا مبالاة.

"لا تحاول! تحتاج إلى رابطة معقدة حتى يصبح ودودًا معك، على سبيل المثال علاقتنا مبنية على مطاردته لي ومحاولة قتلي"

ضحك إليف بخفة وتمتم "تنين الشفق ليس تنينًا عاديًا".

"بما أنك تعرف كل شيء، لمَ لا تعطيني بعض النصائح من أجل اليوم؟ هناك رغبة مرعبة في رؤية الطاولة تحترق والنبلاء عليها" التفت الاثنان نحو جلنار التي فتحت عينها الصفراء قبل أن تهدأ الحركة من حولها ويتلاشى اللون الأصفر إلى بندقي معتاد. 

"لا تتحدثي كثيرًا" رفعت حاجبًا للنصيحته الغريبة، لكنه أكمل "إنهم أذكياء، وكونكِ بشرية خارجة عن نظامهم بالكامل وعن سيطرتهم سيجعلك هدفهم، وهذا اللقاء سيتم استغلاله لمعرفة طبيعة تصرفاتكِ ومبادئكِ وكيف تفكرين وتخططين وما الذي تنوين القيام به، أعطيهم أقل شيء يمكنكِ تقديمه وتحكمي في حركة جسدك وتعبيرك وكل رد فعل، اتركيهم يتخبطون في الظلمة".

"تبدو عالمًا بهم!" أومأ برأسه قائلًا "مع الأسف، قد يبدو أنهم فقط طبقة ثانية في المملكة، لكن ستُفاجئين من مدى توغلهم في الحكم والتحكم في كل حركة داخل المملكة، أي شيء خارج سيطرتهم سيسبب الرعب لهم، اليوم أنت خوفهم الأول".

ارتفعت زوايا شفتيها في ابتسامة جانبية. "يبدو أنني سأستمتع الليلة" تمتمت بشر ليصفق يوجين بحماس، رفعت رأسها نحو إليف وسألت ما ظهر في عقلها "في الواقع هناك ما يدور في عقلي منذ مدة، من أنت بالضبط؟ وهل لك علاقة بكل هذا؟" زم شفتيه في تفكير وهو ينظر للأعلى "أظن أني شخص فشل فيما ستنجحين أنتِ في فعله".

زفر يوجين وصاح "كفاكم إجابات غير واضحة!" ابتسم إليف وأراد قول شيء ما، لكنه توقف وعقد حاجبيه قبل أن يتنهد وينظر لهما "أردت المجيء معكما اليوم، ولكن يبدو أن علي الذهاب" أوقفته جلنار بسرعة قبل أن يختفي وقالت "أخبرني إن كان بإمكاني فعل شيء من أجلك؟ أعني… هل أنت شخص حي؟ أين أنت؟ ولماذا لا يمكنك أن تتحرك بحرية؟".

حدق بها لثواني قبل أن يومئ يطمئنها "فقط كوني على سجيتك! هذا يكفي وزيادة للمساعدة، وتذكري أن الجسد مكان، سجن… روحي لا تزال حرة" ودون ترك فرصة لحوار آخر كان قد اختفى.

"جميع من على هذه المملكة يظن نفسه حكيمًا" تمتم يوجين وهو يحدق حيث كان يقف إليف منذ ثوانٍ. 

في النهاية اضطرت جلنار للعودة عندما لاحظت أنها قضت الكثير من الوقت بعيد عن المنزل، والشمس بدأت بالغروب وبالتأكيد ستفزع واندر إن لم تعد جلنار في هذا الوقت وستظن أنها هربت حتى لا تقابل النبلاء. 

ما إن فتحت باب المنزل حتى اندفعت واندر نحوها تسحبها لغرفتها وهي تصيح حتى تجهز جلنار نفسها بسرعة. لمحت رومياس الذي ارتدى قميصًا أبيض اللون ذو ياقة منخفضة وحولها ربطة عنق عريضة يتوسطها دبوس فضي يحمل شكلًا اشبه بنجمة سداسية، وبنطال فضفاض بذات اللون علاهما سترة ذات قماش ثقيل بلون كحلي غامق وتطريز فضي حول حوافها، وخصلاته -التي تكاد تجزم جلنار أن واندر من قامت بسحبها للخلف بهذه الطريقة- عاد ليبعثرها مجددًا فوق عينه.

لافيان لم يضع السترة الخضراء الغامقة فوق كتفيه وتخلى عنها تمامًا مكتفيًا بصدرية بذات اللون فوق قميصه، وأرتيانو كان يقف بملابسه المعتادة لأنها رسمية دائمًا.

دفعتها واندر للغرفة وتحركت نحو الخزانة لتخرج فستانًا بلون وردي باهت وتصميم جذاب، ووضعته فوق سرير جلنار. "أسرعي، وبدلي ملابسك واجمعي شعرك للأعلى، سيناسبك كثيرًا" دحرجت عينها وتذمرت "نحن لن نذهب لحفل، واندر! إنه فقط اجتماع بـ..." صمتت عندما رمقتها واندر بقوة وخرجت مغلقة الباب خلفها. 

يوجين انسحب بعد السخرية من جلنار التي سترتدي فستانًا لإيقاع زوج لها ولم يسكت إلا عندما ألقت جلنار نحوه حذاءها كالعادة. 

نظرت للمرآة بعد ارتداء فستانها، لا تنكر أن تصميمه كان جميلًا، لكن لم يعجبها ارتداء شيء كهذا وهي تقابل الأشخاص الذين تعلن الحرب ضدهم. 

عزمت أمرها ونزعت الفستان وألقته جانبًا، ثم أخرجت من الخزانة أحد القطع التي صممتها مونيكا لها ولم تجد مناسبةً لارتدائها من قبل. 

انتهت من ملابسها قبل أن تجمع شعرها بثلاث ضفائر من مقدمة رأسها لتجتمع في النهايه في ضفيرة واحدة. 

وقفت أمام المرآة برضى تتفحص مظهرها الجديد والمفضل، قميص أسود شمرت عن أكمامه، سروال من الجينز الأسود وحذاء طويل الرقبة من الجلد اسود اللون ذو زخارف ذهبية بسيطة، حزام جلدي ذهبي اللون حول خصرها، و معصم معدني ذو لون ذهبي ثبتته فوق معصم يدها اليمنى . 

خصلات شعرها القصيرة التي لم تتمكن من جمعها تركتها منسابة على وجهها، أخذت نفسًا عميق وأضافت لمسة أخيرة بمعطف رمادي طويل طرزت منطقة أكتافه بخيوط ذهبية حتى طول الذراع، ولم تكلف نفسها بوضع ذراعيها داخل الأكمام فتركته منسابًا على كتفيها.

ما إن فتحت باب الغرفة صوت صفير يوجين وصلها "ذاهبة لقصرٍ أم لحرب؟" فكرت لثانية قبل أن تجيب باقتناع "ذاهبة لحرب داخل قصر" ضحك لإجابتها ووضع يده داخل جيبه يتبعها للأسفل.

الجميع كان موجودًا إلا جوزفين وأوكتيفيان، ثونار لم ترتدِ فستانًا، بل اكتفت بقميص أزرق وبنطال أسود وسترة سوداء طويلة من الجلد، الرجال جميعهم بدت ملابسهم متشابهة، إلا لافيان الذي يرفض ارتداء سترته و جوزفين الذي ظهر للتو يشتكي من ربطة عنقه التي تشعره بالاختناق وقام بنزعها.

أتريوس لم يرتدِ أي شيء رسمي، ملابسه بدت أكثر من ملابسه المعتادة التي تقتصر على قميص وسروال، هذه المرة كان يرتدي قميصًا أسود وقد شمر عن أكمامه وحذاء طويل الرقبة على سرواله الأسود الواسع وصدرية من الجلد بلا أكمام.

لم تستطع جلنار إبعاد عينها عنه؛ فقد بدا كفجوة سوداء ضخمة وسط الجميع. 

واندر شهقت ما إن لمحت جلنار وصاحت بغضب "أين فستانك؟" ابتسمت وأجابت بإصرار "لن أرتديه، يكفي أني ذاهبة مجبرة" كادت واندر أن تزجرها مجددًا، لكن أغدراسيل الذي ربت على كتف واندر وهو يحدق بجلنار بابتسامة صغيرة دفعها للصمت وتكتيف ذراعيها دون رضى. 

"تبدين قاتلة، نحن حقًا فريق من القتلة" صاحت ثونار وهي تلف ذراعها حول جلنار. "تبدو كأحد المسئولين في الجيش" جوزفين علق قبل أن يغمز بعينه مضيفًا "النوع المثير من القادة" رمقته ثونار باشمئزاز بطرف عينها ليضحك ويبعثر شعرها وهو يمر بجانبها "مزعج" تمتمت وهي ترتب شعرها وسط تبديل جلنار نظراتها بينهما.

"من رأيي؛ الألوان الغامقة تجعلكِ كثنائي مع أتريوس!" التفت الجميع نحو تينر جام الذي بدل عينه بينهما يقارن بين ملابسهم الغامقة، تبادل الاثنان النظرات التي قاطعها أغدراسيل.

وقف أمام جلنار مبتسمًا قبل أن يرفع معصمها مشيرًا لسوارها "تعلمين ما عليكِ فعله إذا وقعتِ في المشاكل" أومأت وأجابت ببراءة "أقتل من سيوقعني في المشاكل" دحرج عينيه مبتسمًا ومال نحوها "لا، تقومين باستدعاء أحدنا، هذا إن حدث وابتعدتِ عنا لظرف ما، لكننا سنتحرك معًا نحو قاعة الاجتماعات، نستمع لما لديهم ونعود".

رفعت كتفيها وقالت "إن أغلقوا أفواههم فسنعود للمنزل وسأتركهم سالمين" قطع حديثها أوكتيفيان الذي تحرك للأسفل يغلق أكمام بذلته العسكرية البيضاء والمميزة عن البقية لكثرة الشارات عليها "حتى إن لم يغلقوا أفواههم فلن تفعلي شيء، ليس لأجلهم، بل لمصلحتك" قال بنبرة نهائية لتتنهد جلنار وتمنع نفسها من الرد حتى لا يبدأ جدال جديد. 

تحرك الجميع للخارج حيث المركبات تم إيصالها مجددًا ككل مرة، جلنار تم سحبها للخلف فجأة، نظرت نحو أتريوس الذي لم يبادلها النظر في المقابل.

"أكره النبلاء بقدر ما تكرهينهم وربما أضعاف كرهك لهم، لكن لا تتصرفي بطيش هذه المرة، إنهم يقرءونك جيدًا"

ارتفع حاجبها لنصيحته المشابهة تمامًا لنصيحة إليف، وعندما توقع معاندتها له وجدالًا كجدلها مع أوكتيفيان تفاجأ بإيماءة منها. "جلنار، أنا جاد!" طرفت بتعجب وقالت "حسنًا، أعرف، لن أقوم بشيء طائش". 

نظر نحوها يحاول اكتشاف أي خدعة أو سخرية "أتريوس، أنا جادة، لن أفعل شيء، كما أنك موجود… ستنقذني دائمًا" ارتفع حاجبه للجملة، ولكنها تركته واتجهت للمركبات. 

جوزفين ما إن جلس داخل المركبة كتم أنفاسه وأغمض عينه. "لن نموت، جوز..." قاطع أغدراسيل صياح جوزفين "لا تشتتني! أنا أحاول عرض أغاني كثيرة داخل رأسي حتى لا أتذكر أننا سنحلق!". 

حرك أغدراسيل رأسه بيأس قبل أن تبدأ المركبة بالعمل والتحليق وسط دندنة شبه عالية من جوزفين. 

جلنار ظلت جالسة بصمت طوال الطريق بجوار أتريوس، وكأنها أصبحت عادة ألا يجلس شخص مع أتريوس إلا جلنار. عقدت حاجبيها عندما لاحظت من خلال زجاج المركبة أضواء كثيرة، ولكنها على مسافة بعيدة، وبالرغم من علوهم عن الأرض؛ إلا أنها كانت واضحة. 

اعتدلت في جلستها واقتربت من الزجاج تحدق بالقصر الضخم الذي بدأ يلوح في الأفق، في هذه اللحظة عرفت لما يسمى بالقصر العظيم، ما زالوا خارج الحدود الخاصة بالأرض الملكية وبالرغم من ذلك كان بإمكانها رؤية الأبراج العالية للقصر، كانت تناطح السحاب لشدة علوها! 

المركبات أبطأت سرعتها ولمحت جلنار حائطًا شبه مرئي بلون أصفر، ما إن مرت المركبات من خلاله صوت صفير خفيف صدر من الجهاز في المركبة قبل أن تظهر على الشاشة كلمة 'مسموح'.

أسرعت المركبات مجددًا وظلت جلنار تحدق حولها كطفلة، الأرض كانت عشبية والأشجار موزعة بشكل منتظم، وعلى مسافات متباعدة كانت هناك نوافير من الرخام اختلف شكلها من واحدة لأخرى. 

النباتات كان بعضها يضيء بألوان خلابة حسب لونها، وأغلبها كان بلون بنفسجي. 

وعلى الناحية الأخرى كانت البرك الصغيرة موزعة في المكان. مباني خشبية لم تعرف على ماذا تحتوي، ولكن الصرح الزجاجي يمكنك من رؤية النباتات الضخمة المختلفة داخله لأنه كان مضيئًا بقوة. 

ببطء المركبات انخفضت على مساحة إسمنتية واسعة وترجل الجميع منها، وعلى الفور ثلاث رجال بملابس متشابه تقدموا نحو المركبات وحلقوا بها لداخل مبنى واسع. 

الإضاءة كانت تحلق في المكان دون حاجة لمثبت، بدا المكان كالجنة ليلًا! 

التفتت جلنار للرجل الذي تقدم نحوهم في خطوات منتظمة ورأسه مرتفع ويديه ثابتتان بجوار جسده طويل القامة، ملابسه كانت تتراوح ألوانها بين قميص أبيض وقفازات بيضاء، وسروال خمري اللون وصدرية بذات اللون مع عقدة حول ياقة قميصه.

"وهذا هو الخادم المسكين الذي تجده في كل حكاية" علق يوجين مشيرًا للرجل بطريقة مسرحية لترمقه جلنار بقوة حتى يتوقف. 

انحنى نحوهم بخفة وبنبرة ثابتة لم تهتز لثانية دعاهم جميعًا ليتبعوه. البقية كانوا غير مدهوشين كثيرًا؛ فتلك ليست المرة الأولى لهم، فقط جلنار وهارليك من حدقوا بالمكان بدهشة بالرغم من أن هارليك كان هنا لمرة من قبل عندما أُعلن فارسًا رسميًا.

تبع الجميع من ظنته جلنار أحد الخدم، أو ربما رئيس الخدم. رائحة العشب الرطب كانت منعشة، وهدوء المكان مع الأصوات الناعمة لمخلوقات لمحتها جلنار تُضيء في الظلام بين الأشجار دفع رغبةً داخلها للبقاء هنا ونسيان الدعوة، والنبلاء، والأميرة. توقفوا أمام بوابة ضخمة من القضبان السوداء، وفي المنتصف كانت علامة المملكة تتوسط البوابة.

اثنان من الداخل قاما بفتح البوابة دون النطق بكلمة، وعبر الطريق الصخري سار الرجل يتبعه الفرسان. بوابة القصر الضخمة لم تكن مغلقة كما توقعت جلنار، وصعد الجميع الدرجات الثلاث الرخامية قبل أن يدلفوا للداخل فتعلو أصوات خطواتهم داخل المكان.

واسع ومرتفع وممتلئ بالنوافذ ذات الطول الشاهق والستائر ذات القماش الغالي، المكان كان مذهلًا. السقف كان يتدلى منه العديد من الثريات ذات الحجم الضخم، ولكن لم تعتقد جلنار أنها سترى ثرية بالحجم التي رأته في القاعة الواسعة في المنتصف، حجمها قد يصل لحجم غرفتها على الأرض. "هذا المكان أغلى من بريطانيا، وأنا من كان يظن أن ديزني أغنى من في العالم" منعت جلنار نفسها من السخرية لتفكير يوجين الأحمق. 

أخذت نفسًا عميقًا وحاولت تجاهل الرائحة العطرة التي أصابتها بالدوار، استقامت في وقفتها وسارت بخطوات متزنة وثبتت عينها على الطريق أمامها دون أن تدور في المكان كالبلهاء، وحاولت كتم شعورها بالدهشة لفخامة المكان وكبره. 

عبر طرقات القصر لمحت بابًا من خشب ناعم وقف أمامه رجلان لا يرمشان لثانية، وما إن لاحظ الاثنان قدومهم -دون إضافة أي كلمة- قاموا بفتح الباب، ثم أخذ أحدهما خطوة للداخل وصاح بصوتٍ وصلهم يعلن عن وصول الفرسان. 

الرجل الذي قادهم عبر الطريق توقف بجوار الباب وانحنى مجددًا وأشار بيده يدعوهم للدخول، وهنا شعرت جلنار بقلبها يقفز إلى حلقها. في الداخل ستجد خمسة أشخاص لا تحبهم، لا يعرفون من هي، بصحبة أميرة هذه المملكة، وأي تصرف خاطئ قد يدمر كل شيء تحاول أن تصلحه. 

لا إراديًا أبطأت في خطواتها ويدها وجدت طريقها لقميص أتريوس لتقبض عليه بقوة في محاولة تهدئة نفسها. 

نظر نحو يدها وقد أصابه التعجب لثانية قبل أن يرتفع نظره لوجهها، لاحظ محاولاتها في التنفس ببطء وكبت توترها ليرسم ابتسامة بالكاد يمكن رؤيتها ويمسك بيدها يبعدها عن قميصه ويضغط عليها هامسًا "ربما يكونون وحوشًا بالفعل، ولكنك كفاية لإخافة الوحوش بهذه العقدة بين حاجبيك".

ارتفع حاجبها تلقائيًا ونظرت نحوه بحدةٍ لتتسع ابتسامته ويتجنب النظر لعينها. حاول ترك يدها، لكنها كانت متمسكة جدًا دون أن تلاحظ ذلك. مال نحوها بشك سريع ساخر "لا تريدين منهم أن يظنوا أنكِ مرتبطة بي!" اتسعت عينها ونظرت نحوه باستغراب ليرفع يديه أمامه، أبعدت يدها بسرعة ونظرت بعيدًا عنه، ولم يتمكن من تجاهل الاحمرار البسيط على وجنتيها. 

ما إن التفتت لاحظت نظرات يوجين وحاجبه المرفوع نحوها، حركت شفتيها بـ "ماذا؟" ليرفع شفتيه ساخرًا "فقط اركلي مؤخرتهم واخرجي" صوته كسر الصمت الذي بدا مقدسًا في هذه اللحظة، ولكن لم يسمعه سوى جلنار التي شجعت نفسها ودخلت حيث غرفة الاجتماعات. 

القاعة كانت ضخمة وجدارٌ فيها كان مكونًا من نوافذ ضخمة أسدلت عليها ستائر خمرية اللون من القماش المخملي، وأخرى من الحرير بلون أفتح درجة.

لون الستائر أبرز لون الغرفة الذهبية الباهتة، وفي منتصف السقف تدلت ثرية لا تقل فخامة عن التي رأتها في الخارج، ينتصف الغرفة طاولة قد تتسع لسبعين شخص من الخشب الناعم القوي أسود اللون وحولها المقاعد مرصوصة بانتظام.

وقعت عينها على الفور على هيئة سيدة عائلة كليسثينيس تجلس بهدوء وملامح ثابتة وفستانٍ ضخم مكون من طبقات قماشية كثيرة، ذي لون نيلي مدموج مع الأبيض. على المقعد المجاور لها رجل سمين الجسد وقصير القامة كما يبدو، لحيته الضخمة خبئت سمنة وجهه، ولكنها لم تخفه بالكامل، أنفه مرتفع في غرور، ولم تستطع جلنار سوى رسم صورة هزلية عنه كرجل أحمق يظن أنه يملك كل شيء. 

على المقاعد المجاورة جلس ثلاثة رجال، أحدهم لم تحتج جلنار للنظر له مرتين حتى تعرف أنه سيد عائلة ألفن، الشبه الضخم بينه وبين ابنه فلوريان كان واضحًا، حتى أنه بإمكانك الشك بأنهما إخوة توأم لولا أن ملامح سيد ألفن كانت أكبر سنًا. 

كان ضخمًا عريض المنكبين، وجهه ذو تقاسيم قاسية ونظرة باردة تقل من قيمة الآخرين ولا ترى سوى فخره وكبريائه، زيه العسكري المزين بمئات الألقاب والميدليات والشارات زاد هالة القوة من حوله، كان قائدًا عسكريًّا من الرتب الأولى. 

بجواره جلس رجل يبدو شابًا وربما أصغر الموجودين، شعره الأسود ثبته للخلف وقد جمع بعضه للأعلى وترك الباقي مسدولًا، بالرغم من أنه لم يكن بالشعر الطويل؛ فهو يصل لبداية عنقه، كان يسند رأسه بيده ويحدق بالسيدة كليسثينيس بوجه منزعج، والتي بدورها لم تبالِ به على الإطلاق، وبالرغم من ابتسامته الصغيرة الباردة؛ إلا أنه بدا أكثر خبثًا لجلنار. 

الأخير كان يبدو عمره مماثلًا لعمر السيد ألفن، رجل بزي رسمي يدل على الفخامة والثراء، شعره الرمادي وصل لنهاية عنقه وذقنه ذو طول متوسط، بدت نظرته السوداء هادئة، ولكن حادة. 

الجميع التفت ما إن أعلن عن حضور الفرسان وراقبوا ملامحهم المألوفة تتقدم وتأخذ مقاعد على الطاولة، الجميع ثبت عينيه على الوجه الجديد الذي لم يكن حاضرًا من قبل.

جلس الفرسان على المقاعد المقابلة لأسياد العائلات، وتعمدت جلنار الجلوس بين أغدراسيل وأتريوس حتى تشعر ببعض الأمان من نظرات الخمسة، بالرغم من أن السيدة كليسثينيس لم تكن ترمق جلنار بالحدة التي يرمقها الرجال الأربعة بها. 

لسوء حظها كان الشخص الذي يجلس مقابل لها هو سيد عائلة ألفن، ذلك الشخص لم يتردد أو يحاول لثانية إخفاء نظاراته الحادة عن وجهها، وكأنه يقرأ كل رمشة تقوم بها، وفي المقابل استغلت جلنار معرفتها السابقة بكل ما يدور حول الجسد وحركته واستقامت في جلستها مع كتفين معتدلين غير مرخيين وعين رفعتها ببطء وبراحة نحو الخمسة وكأنها غير مبالية بنظراتهم قبل أن تثبتها على السيد ألفن. 

لم تكن جلنار ذلك النوع الذي قد يواجه نظرة أحدهم بكل جراءة، لطالما لعبت لعبة الهروب، لكنها قد حدقت في عيني أتريوس لمدة جعلتها قادرة على التحديق في عيني الموت دون خوف.

لم ترمش، وكأنها في مسابقة تحديق ضد ألفن، كانت تعلم تمامًا أن الأخير يظن أن قوته وهالته كافون لجعل الجميع يتجنب النظر إليه، خاصة فتاة هزيلة يمكن كسرها بقبضة يد واحدة، لذلك صرخت جلنار داخليًا بـ "لا تبعدي عينك عنه لثانية". إن كانت ستترك انطباعًا داخل نفوسهم فعليه أن يكون قويًا كفاية حتى لا يستضعفها أحدهم.

الأخير تملكه التشوش للشابة التي لم تهتز ولم تحاول محاربة التوتر أو القلق، بل وبكل بساطة يدها أخذت مكانها على مساند الكرسي ورفعت ذقنها ولوهلة اندهش للانطباع الذي تركته في نفسه كما تركته داخل الجميع.

إنها تملك المكان بمن فيه.

لم تعرف جلنار من أين ضربتها اللا مبالاة، بل والتعجرف في هذه اللحظة. لا تنكر شعور التوتر، ولكنه كان أخف لأنها ما إن رأت الخمسة أدركت أن أنهم ليسوا بتلك العظمة، في النهاية ما زالوا كأي شخص آخر، بالرغم من نظراتهم الواثقة والضغط الذي يسببونه في المكان لمجرد وجودهم.

لكن حقيقة أنها غير ملزمة باتباع قوانينهم وأوامرهم كانت كفيلة بدفع الشجاعة داخلها. 

ولم تنكر أن وجود يوجين وتعليقاته على مظهر كل شخص فيهم ساعدها على تخطي القلق والخوف، بل إنها أصبحت تمنع نفسها من الضحك بقوة. 

"إذًا قرر الفرسان إظهار أنفسهم أخيرًا، أم أنه تم اختياركم حتى يقوم جنود المملكة بكل شيء؟" التفت الجميع نحو الرجل الذي حاولت جلنار كتم ضحكتها وهي تشاهده يتحدث، بدا مشابهًا تمامًا لشخصية كرتونية يحاول المؤلف جعلها تبدو شريرة، لكنها ليست سوى نسخة حمقاء من الشر.

كيف لرجل مثله أن يكون سيد عائلة؟ هذا الرجل خاصة لم يتوقف يوجين من رمي تعليقات عنه كـ "يبدو كبرميل فارغ من الداخل. انظري، إنه يحارب حتى لا يطلب الذهاب للمرحاض. ألا يشبه رئيس كوريا الشمالية؟".

"سيد دول، من الأفضل أن يؤجل أي حديث حتى مجيء سمو الأميرة" الرجل الآخر ذو الشعر الرمادي تحدث بصرامة ليظهر الانزعاج على وجه سيد عائلة دول، أقل العائلات في ترتيب الأكثر ثراء ونفوذا. 

"لمَ لا؟ أليس المقصد من إضاعة الوقت هنا هو التعرف على الفرد الجديد؟ من الوقاحة أن نظل في هذا الصمت لمجرد أن سموها قد تأخرت" الشاب ذو العين الخضراء الماكرة قال قبل أن يصفق بيديه مرة واحدة مثيرًا انزعاج الجميع بتصرفاته "أنا سيد عائلة صاميومين، تشرفت بلقائك. على يميني السيد ألفن، ثم سيدة كليسثينيس والسيد دول، وعلى يساري سيد جلين". 

في النهاية نظر نحو جلنار التي مررت عينها عليهم قبل أن تعود عليه ليقول "لمَ لا تعرفينا عن نفسك؟" حاولت بقدر الإمكان رسم الملل على ملامحها وقالت دون أي تكلف أو رسمية "جلنار". 

لم يتمكن الشاب أمامها لثانية من كبت تعابير وجهه وارتفع حاجبه، بينما ظهر الاستنكار على وجوه الأربعة الباقين، وبالرغم من أن كليسثينيس تعلم من تكون جلنار جيدًا؛ إلا أن أسلوبها البارد كان جديدًا، بل ومناسبًا جدًا لتعامل مع النبلاء لأول مرة. 

"أتمنى أن نوفر المشاحنات التي قد تحدث لوقت لاحق وننتظر قدوم سمو الأميرة، في النهاية تمت دعوتنا هنا جميعًا من قبلها" حاول أوكتيفيان التدخل بسرعة قبل أن يزداد الأمر سوء، ولم يلقِ نظرة واحدة لجلنار بالرغم من أن أسلوبها منذ دخولهم وحتى تحدثها أزعجه. 

"أفراد ألفن دائمًا ما ينصبون أنفسهم كقادة، حتى إن لم يكونوا كذلك" فك أوكتيفيان انقبض لجملة السيد دول والازدراء الواضح، وقبل أن يفتح فمه برد سبقه السيد ألفن قائلًا بنبرة مشبعة بالثقة والقوة "هذا لأن آل ألفن ولدوا قادة، وهذا يجري في دمائهم على عكس أي شخص آخر، كما أن المقدم أوكتيفيان ألفن بالفعل يقود الفرسان لنصر". 

المدح كان موجهًا لأوكتيفيان وللعائلة، وبالرغم من ذلك ظل الامتعاض مرسومًا على وجه أوكتيفيان. "لا تكذب الكذبة وتصدقها" التفت الجميع لأتريوس وللمرة الأولى استطاعت جلنار لمح شيء على وجوههم، كان الانزعاج، فقط لوهلة، أي أن أتريوس قد مس قشرتهم من قبل، وهذا ترك أثرًا. 

"هل سأتلقى الحديث من لقيط مكرر؟ كما أذكر، ألم يكن أوكتيفيان أول الفرسان المختارين؟ ثم كنت أنت الحادي عشر، ما زلت عند رأيي؛ فلقيط مثلك غير مؤهل ليكون أحد الفرسان، لابد وأن خطئًا قد حدث ليتم اختيارك"

أوكتيفيان تنفس بقوة وصلى حتى يتجاهل أتريوس إهانات خاله المستمرة، في المقابل أتريوس أعطى ألفن أفضل ابتسامته استفزازًا، ولم يكد ينطق بشيء مهين حتى سبقته جلنار.

"بمعنى أكثر وضوحًا؛ تريد القول أن التوبازيوس أخطأت في اختيارها؟ ظننت أن شعوب الممالك بما فيهم النبلاء قد أقسموا على الإيمان بالتوبازيوس والثقة بها، يا لها من إهانة أن يخرج حديث مهين كهذا من فم من ولد ودماء القادة تجري في عروقه"

سخريتها من جملته بكل برود تركتهم في دهشة، اتساع أعين الجميع لم يكن كافيًا حتى يشعرها بالتراجع والتردد، حتى وإن توترت للحظة تحت نظرات ألفن التي احتدت، ولكنها ابتسمت بمكر عندما لمحت الغضب مكبوتًا وبقوة داخل عينيه، لقد نجحت بكل وضوح في إهانته بشكل مباشر.

النشوة التي اندفعت داخلها أكسبتها الجرأة لتضع نظرة ملل واضحة وتضيف:

"ظننت أني سأستمتع اليوم، اتضح أن النبلاء في النهاية لا أكثر ولا أقل مما سمعت عنهم"

سيد عائلة صاميومين لم يتمالك دهشته من هذه الجرأة لتتسع عيناه ومعها ابتسامته التي أشارت إلى أنه وجد شيئًا ممتعًا ومثيرًا للاهتمام أخيرًا، أما ألفن كاد يحطم عظام قبضته لشدة ضغطه عليها، ففكرة أن صبية لم تبلغ من العمر أشده تمكنت من إغضابه بجملتين فقط كانت تدفع أفكارًا سيئة داخل رأسه، لكنه حاول قدر الإمكان الحفاظ على هدوءه.

جلين حدق بها بعدم تصديق مشابه لصاميومين وقد عجز عن قول كلمة واحدة، سيد دول راقب ردود أفعالهم يحاول استشفاف إن كان يجب عليه تلقي الإهانة بصمت أم إثارة الضجة، لكنه صمت في النهاية وحاول رمق الفتاة بازدراء، حتى مع ملاحظته أنها لم تنظر نحوه. 

السيدة الوحيدة في النبلاء نهرت جلنار بنظراتها، ربما التصرف بوقاحة هو الحل الوحيد مع النبلاء، لكن ليس من اللقاء الأول، إن تمكنوا من استشعار خطر في وجودها فلن تعيش بسلام.

"تتحدثين وكأنكِ لست من الأرجاء؟" ارتفعت عينها نحو السيد جلين وتنهدت قبل أن تتمتم "من يعلم؟". 

نجحت في جذب انتباه الخمسة نحوها، أربعة منهم حاولوا فهم من تكون هذه الفتاة بالضبط لتتحلى بهذه الشجاعة والعجرفة؟ ألفن بدل عينيه بينها وأتريوس، ولشدة تشابه نظراتهم الباردة كاد يجزم أن هناك صلة قرابة بينهم.

لم يعلم أن جلنار كانت بالفعل تحاول تقليد أتريوس؛ فهو الوحيد الذي تمكن من إغاظة النبلاء حتى أجبر سيد أكبر العائلات على استعمال كلمة كلقيط في اجتماع كهذا. 

انتباه الغالبية اتجه حيث الباب الذي  فُتح ودخل الرجل ذاته يعلن وصول الحكيمة، الجميع راقب خطواتها ودخولها للمكان إلا ألفن وصاميومين، فكلاهما لم تتزحزح عينه عن جلنار، وبالرغم من شعورها بنظراتهم تحرق بشرتها إلا أنها تجاهلتهم. 

أخذت الحكيمة مكانًا في مقدمة الطاولة، لكنها لم تجلس وظلت واقفة، الباب أيضًا لم يُغلق والرجل ذاته عاد مجددًا قبل أن يعلن بصوته الجهور الذي ضرب أرجاء الغرفة " جلالة سمو الأميرة سافيينغ قد وصـ..." الجميع وقف على قدميه؛ ففعلت جلنار المثل، وقبل أن يكمل الرجل جملته فتاة أقل ما يُقال عنها من الملائكة دلفت المكان. 

بشرة حليبية صافية وشعر أسود طويل مجموع في ضفائر حول رأسها، عينها الواسعة الزرقاء لم تتفحص أحدًا ولم تنظر نحو أحد، فستانها الرقيق المكون من طبقتين من القماش الناعم ذي اللون الأبيض التف بنعومة حول جسدها يعتليه عباءة تصرخ بالفخامة مخملية بلون خمري أطرافها ذات فراء بيضاء ناعمه وقد طرز ظهرها بزخارف ذهبية، وزين رأسها بتاج ذهبي مرصع بأنواع الأحجار الكريمة. 

"أظن أنني سأخون كاراميل" دحرجت جلنار عينها نحو يوجين الذي وقف كالأبله يراقب الأميرة ويكاد يفقد وعيه. 

أما الرجل الذي تمت مقاطعته في أثناء إعلان دخولها ارتبك لثانية قبل أن ينحني وينسحب بسرعة. 

"اجلسوا جميعًا" بالرغم من نعومة ملامحها إلا أن نبرتها كانت صارمة وصوتها كان قويًا جهورًا دفع الجميع للجلوس في ثانية. أخذت مقعدها على رأس الطاولة وحدقت بهم بسرعة قبل أن تلقي ظهرها للخلف وتبعد التاج وتلقيه فوق الطاولة.

رجل هزيل مرهق العينين تكاد هالات عينيه السوداء تصل لوجنتيه تبعها بخطوات سريعة، ووقف بجوار مقعدها وراقب تصرفاتها بتوتر وارتباك بينما يفرك يديه معًا. "ذكرني مجددًا؛ ماذا يحدث؟" ارتفع حاجب جلنار لتصرفها غير المتوقع بالمرة بينما أجابها الرجل الذي يبدو مساعدًا يلازمها في كل مكان لدرجة تمنعه من الراحة "إنه اجتماع النبلاء والفرسان، سموك، حتى نتحدث عن الفارس الأخير".

ارتفع حاجبها وقد تذكرت "سموكِ، نحن اليوم هنا نتشرف بدعوتكِ لنا لتوضيح كل شيء حدث مؤخرًا، كما..." توقف السيد ألفن وقد ظهر الانزعاج أكثر على وجهه عندما تثاءبت الأميرة قبل أن ترفع يدها معتذرة "المعذرة، أنا مستيقظة منذ الصباح، حضرت ما يفوق الخمسين اجتماعًا اليوم، توقف عن الحديث المتملق عديم الفائدة، الحكيمة هنا، ستوضح لي ولكم؛ لذلك قمت بدعوتكم جميعًا، كما أن الـ...".

توقفت عندما وقعت عينها على جلنار، الجميع بدل أنظاره بينهما يحاول تبين ما سيحدث تاليًا. "من أنتِ؟" وجهت سؤالها قبل أن تتفحص هيئة جلنار وملابسها وترفع حاجبًا بإعجاب ظنته جلنار استنكارًا. 

"إنها الفارسة الثانية عشر، سموك" كان هذا دور الحكيمة للشرح، قادة العائلات توقعوا شيئًا كهذا؛ فالاجتماع عن فارس ظهر فجأة ولا أحد هنا غريب سوى جلنار. الأميرة اتسعت عيناها قبل أن تبتسم وتصفق قائلة "رائع، هذا الفريق كان بحاجة للمزيد من القوة النسائية، هذا يجعلني أشعر بالفخر والراحة". 

حتى الآن لم توَفّق جلنار في رسم شخصية الأميرة، هل هي صارمة؟ أم غير مبالية، مسؤولة أم لا؟ باردة أم رسمية؟ في كل دقيقة تتغير تصرفها، نظرتها، نبرتها، وكأنها تتلون مع كل جملة، وهذا أدهش جلنار. 

"هذا ما نحن هنا للحديث معه، التوبازيوس اختارت فارسًا أخيرًا منذ مدة، ولكن الحكماء تحفظوا على الأمر حتى نتأكد من صحته ونتمكن من استدعاء الفارسة جلنار" قالت مشيرة نحو جلنار لتعلق الأميرة "جلنار! لم أسمع اسمًا كهذا من قبل، وأنا من ظننت أن اسم روليان لأميرة هو أغرب اسم" ابتسمت جلنار وأومأت نحوها قائلة "تشرفنا أيتها الأمير روليان".

الجميع نظر نحوها بفزع وأغدراسيل لكزها هامسًا "اسمها سمو الأميرة، لا أيتها الأميرة روليان". لم ترَ جلنار أين الخطأ، فما زالت الأميرة هي الأميرة! 

لم تستقبل الأميرة الأمر كما فعل الجميع لأنها مالت فوق الطاولة بابتسامة جانبية "تشرفنا أيتها الفارسة جلنار" أومأت لها في المقابل وحاول أغدراسيل الاعتذار عوضًا عن جلنار، لكنها أشارت بـ "لا بأس". 

"إن كان الأمر يقتصر على استدعاء الفارسة، لمَ لم يتم إخبارنا بأي شيء؟ ولمَ لم يتم الإعلان عن وجود فارسة أخيرة؟" سيد عائلة جلين سأل لتتوجه الأعين للحكيمة.

يوجين اقترب من جلنار وحاول تقليد صوت الطبول قائلًا "اشتقت لهذه اللحظة حيث تظهر كلمة بشرية، ثم تقلب الموازين". هذه المرة لم تشعر بالخوف، بل كانت تترقب ردود أفعالهم كما فعل يوجين تمامًا. 

"وهذا ما نحن هنا للحديث بشأنه، جلنار كان من الصعب استدعاءها، بل بدا الأمر مستحيلا" نظر النبلاء نحو الحكيمة في استغراب، ولكن حدقت الأميرة بجلنار تحاول تخمين ما المثير حولها قبل أن تكشف الحكيمة عن ذلك. 

"جلنار كانت على كوكب بعيد جدًا عنا، لأنها من البشر"

النبلاء الأربعة التفتوا نحو جلنار بصدمة وشاركتهم الأميرة الصدمة ذاتها، بينما السيدة النبيلة نظرت للحكيمة وأومأت بصمت، وكأنها تخبرها أن إخبارهم هو الأفضل. 

"ما الذي يعنيه هذا؟ هل نحن هنا لتتم السخرية منا؟" سيد دول نهض بغضب، ولكن رمقته السيدة كليسثينيس بقوة قائلة "جميعنا نعرف أن البشر موجودين سيد دول؛ لذلك دعونا لا نتحامق ونتحدث بعقلانية". جلس بمكانه وهو يحدق بها بصدمة، ولكن ألفن رد في المقابل "ولكننا نعلم أنه من المستحيل أن ينتقلوا إلى الإلترانيوس، بل إن التواصل بيننا هو ضرب من الجنون، والآن تريدين إخبارنا فجأة أن الأمر ممكن وأنها فارسة أيضًا!". 

لم يرد أحدهم على التساؤلات التي يطرحها الجميع، وفي النهاية نظروا للأميرة ينتظرون قرارها، الأخيرة حدقت في جلنار لمدة قبل أن تقول بدهشة "البشر حقًا موجودين!". لم تترك فرصة لأحد للحديث وصاحت دون أن تبالي بنظرات الجميع ومحاولات مساعدها المسكين لمنعها من التصرف بطيش "أنتم تملكون كوكبًا، صحيح؟ هناك شعب من البشر مثلك؟ تملكون ملكًا ومملكة وقصورًا، صحيح؟". 

ارتفع حاجبا جلنار ولم تفهم اللهفة في عينها والرغبة الطفولية في سماع أي شيء عن البشر، لكنها تحدثت في النهاية وفسرت "في الواقع؛ نعم! سكان الأرض كثيرون، مليارات، ولكن لا نملك مملكة، بل عواصم ودول وقارات، لكل دولة رئيس. هناك بعض الدول التي تسير بالحكم الملكي كالإلترانيوس، فالمكان الذي ولدت فيه تحكمه ملكة وله نظام ملكي نوعًا ما".

أومأت بسرعة واتسعت ابتسامتها تريد سماع المزيد متجاهلة نداء مساعدها برجاء حتى تتوقف "إذًا أبي كان محقًا! لم يكن يؤلف القصص من أجلي! البشر حقًا موجودين ولهم عالم خاص بهم ولغات مختلفة، وليس كما يُشاع هنا" أومأت جلنار بابتسامة لتتنهد الاميرة وتنظر حولها تفكر في شيء لم يفلح أحدهم في معرفته. 

"هل يمكننا التركيز على سبب وجودنا هنا؟" تحولت نظرة الأميرة في ثانية لأخرى باردة ووجهتها نحو الشاب صاميومين "سبب وجودكم هنا هو معرفة أن الفرسان قد انضمت لهم الفارسة الثانية عشر، من البشر، كيف حدث هذا؟ الشيء الوحيد الذي قد يجيبك هو التوبازيوس، هل ستسأل التوبازيوس من أجلنا؟". 

طرف أكثر من مرة قبل أن يظهر الضيق على وجهه ويصمت دون رد، اعتدلت الأميرة في جلستها ونظرت نحو السيد صاميومين وارتفع صوتها "هل ستسأل التوبازيوس، سيد صاميومين؟" لم يرفع عينه نحوها وأجاب بغضب مكبوت "لا يمكننا سؤال التوبازيوس؛ فهي ليست شخصًا، سموك". 

رفعت الأميرة حاجبًا قبل أن تقول "جيد! بعض الأشياء التي تحدث لا يمكن تفسيرها؛ لذلك عوضًا عن محاولة معرفة كل شيء حدث في الماضي لنركز على ما يحدث في الحاضر، لنوقف هذه الحرب عوضًا عن إقامتها فيما بيننا". 

فك صاميومين انقبض أكثر ولم يتجرأ على الرد.

"إذًا إن كنا سنركز على الحاضر فعلينا الحديث عما سيحدث. كبداية؛ أتشرف بمعرفة الفارسة الثانية عشر ومسرور لأن فريق الفرسان ازداد عددًا" جلين قال جاذبًا انتباه الجميع قبل أن يردف "أتمنى أن تكون الفارسة جلنار عالمة بما سيحدث عندما تحاولون تحرير قصر عائلتنا" قال مشيرًا بحديثه للإريبوس. 

"أنا على دراية بكل شيء، كما أننا سنذهب لتحرير أرض نورث مع القصر، وليس القصر وحده" شبكت يدها ومالت نحو الطاولة "بالضبط، وهذا ليس سهلًا، نحن لا نعرف أي قدرة يمكن للبشر استخدامها أو المحاربة بها، وضعكِ في أرض المعركة لن يكون في صالحنا".

لم تجب جلنار لأن الحكيمة سبقتها "لقد تدربت جلنار تحت إشرافي، وكونها الفارسة الثانية عشر ليس موضوع وجودنا هنا؛ فجلنار في الحقيقة ليست فارسة".

تشوش النبلاء وحاولوا فهم ما ترمي له الحكيمة، فمرة يقولون أنها فارسة ومرة ليست كذلك. "ماذا يعني هذا؟" نظرت الحكيمة لألفن قبل أن تفصح قائلة:

"جلنار ابنة التوبازيوس"

هذه المرة لم يتمكنوا من تدارك الصدمة، حتى الأميرة نهضت على قدميها صائحة "ما الذي تعنيه بهذا؟". نظر الجميع لجلنار التي ابتلعت بصمت ونظرت ليوجين الذي أشار لها حتى تهدأ.

"لقد تم اختيار جلنار كابنة التوبازيوس، لا يوجد توضيح أكثر من هذا، سموك"

ضحك السيد صاميومين بعدم تصديق، بينما أسند السيد جلين ظهره للمقعد يحاول تفسير الأمر بطريقة ما.

"من يكون البشر بالضبط ليتم اختيار أحدهم كابن للتوبازيوس؟"

نظرت جلنار للسيد ألفن قبل أن تمرر عينيها عليهم جميعًا.

"نحن نتأقلم! نكره، نحب، نغضب، ونشعر بالخوف والقلق والرغبة في العدالة... ربما نحن نشبهكم ظاهريًا، ولكن في الحقيقة بدأت أرى كم أن الإلترانيوس مختلفة تمامًا عن الأرض ومن عليها، بطريقة أو بأخرى عليكم إدراك الأمر، البشر موجودون وأنا أحدهم!"

لمحت نظرات الفرسان التي لم تمنعها أو تحاول إيقافها؛ لذلك وضعت ابتسامة بسيطة وختمت في النهاية.

"لمَ تم اختياري بالذات؟ الطريقة الوحيدة لاكتشاف ذلك هي مراقبة ما أنا هنا لفعله؛ فالحرب اتضح أنها أكبر مما كنت أظن، أو مما يظن الجميع"

النظرات الحذرة والمترقبة من القادة كانت كافية لتخبرها أن الرسالة وصلتهم. 

هذه الحرب لن يكون عدوها الوحيد فيها وحوش الإريبوس؛ فقد قررت أنها ليست بيدقًا بين أيديهم، إنها اللاعب الوحيد هنا، وستطيح بهم واحدَا تلو الآخر.


*********************************************

Esraa A

احظ بوقت ممتع بعيدًا عن العالم.

36 تعليقات

  1. العد التنازلي للفصول الجديدة
    "ثمانية"

    ردحذف
    الردود
    1. أحببت و بقوة فكرة العد التنازلي من الان اعلن انظمامي لك في هذا العد❤️❤️❤️❤️❤️

      حذف
    2. أحببت و بقوة فكرة العد التنازلي من الان اعلن انظمامي لك في هذا العد❤️❤️❤️❤️❤️

      حذف
  2. ❤️❤️❤️❤️❤️❤️

    ردحذف
  3. انت بخير ؟ وين هلو واحبكم 🙂

    ردحذف
  4. 🌹🌹🌹😍😍😍🩷❤❤❤

    ردحذف
  5. حدعيلك كل يوم أنا وكل اللى مستنى الفصول الجديده بس نزلى فصلين تلاته فاليوم😘😘😘😘

    ردحذف
  6. ❤️❤️❤️❤️حماس للفصول الجديدة

    ردحذف
  7. ❤️❤️❤️❤️❤️❤️

    ردحذف
  8. غريب فين التعليق اخر البارت؟

    ردحذف
  9. جلنار دائماً تصدم النبلاء 🔥

    ردحذف
  10. بتعجبنى الكلمات بتاعت الختاميه دى ♥️♥️♥️

    ردحذف
  11. منتظرة فصل الحرب و الكام فصل اللي بعده على نااار
    حرق


    فصل زيارة كوكب رومياس و الفصل اللي هتاخد اركون من ارض الساخرات و فصل المواجهة مع اتريوس
    تحفة تحفة

    ردحذف
  12. السهر الحين بدأت 💃💃💃💃

    ردحذف
  13. اذا معنى عنوان الفصل هو جلنار و قادة الاربع عائلات النبيلة كيف انها ستلعب بهم مثل قطع الشطرنج🤩 حبيت❤️❤️❤️❤️

    ردحذف
  14. ❤️❤️❤️❤️❤️❤️❤️

    ردحذف
  15. حمااااس😭😭😭
    بس انتبهي قرأت انو ما بيجوز نشبه البنات بالملائكة

    ردحذف
  16. 😮😮😮هذا شكلي وانا اقرأ ردود جلنار على النبلاء..مع اني قرأتها من قبل لكن كل مرة تزيد حماسه ...

    ردحذف
  17. متابع جديد...بجد اى الجمال ده نادرا مرواية او اسلوب كتابة يجذبنى...اعلن انى متابع دائم ليكى حرفيا كتاباتك جميلة جدا اللهم بارك

    ردحذف
  18. أزال المؤلف هذا التعليق.

    ردحذف
  19. بما انى متابع جديد حد يقلى اى هى مواعيد نزول الفصول 🙏

    ردحذف
    الردود
    1. مفيش وقت محدد بس عادتا بتنزله كل يوم الساعه تسعه بس مش دايما، بتتأخر ساعات، وفي ايام م بتنزل

      حذف
    2. اااه شكرا جزاك الله خيرا

      حذف
  20. اخيرا المزة حجي ظهرت، بس في سؤال ازاي اغدراسيل بيخرج اجنحته من غير ميقطع القميص اللي هو لبسه سؤال غريب بس بجد هموت و اعرف 😭😭😭😭، احب أأكد ان لو ثونار و جوزفين ما انتهوش مع بعض و شوفت عيالهم انا ممكن يجرالي حاجة 😭😭😭

    ردحذف
  21. يا جماعة كيف بعد ثمن فصول 😭😭 بحس بعد في كثير احداث مبينتش اما الحماس اسا بلش

    ردحذف
  22. ما بعرف ليش بس عندي احساس انو اليف هو ملك الترانيوس🙂

    ردحذف
  23. رفعت الأميرة حاجبًا قبل أن تقول "جيد! بعض الأشياء التي تحدث لا يمكن تفسيرها؛ لذلك عوضًا عن محاولة معرفة كل شيء حدث في الماضي لنركز على ما يحدث في الحاضر، لنوقف هذه الحرب عوضًا عن إقامتها فيما بيننا". 

    ااجملة ذي خلتني اتاكد انه ) اليف ( هو ابوها 🤔😌😌😌😌 تصفيق لذكائي

    ردحذف
    الردود
    1. هو ابوها لانه الملك اسمه اليفندار والشبح اسمه اليف وبيقولها انه مسجون

      حذف
  24. بكايماسملسملظملسنسيملسملسملسمفس صصحححتتت كيوت لما جلنار مسكت قميص أتريوس قبل لا يدخلون القاعة 🥺
    عاااااا ييججننونننن بصرخخخ!!!! 💓💓💓💓💓💓💓💓💓💓

    ردحذف
أحدث أقدم

نموذج الاتصال